هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تعد سياسات الغموض الأمريكي حول خطة ترامب- كوشنر للسلام الخرافية في المنطقة، المعروفة بـ"صفقة القرن"، خافية على أحد، حيث باتت الأطراف المنخرطة فيها واضحة، وأصبحت ماهية الخطة ومرتكزاتها وأهدافها وحدودها جلية، فهي تقع في صلب التصورات الاستراتيجية الأمريكية- الإسرائيلية للأمن القومي في الشرق الأوسط، وذلك بإعادة بناء الشرق الأوسط من خلال منظورات أمنية واقتصادية فائقة السذاجة تقوم على تصفية القضية الفلسطنية، وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية من خلال تأسيس تحالف أمريكي عربي إسرائيلي (ناتو عربي) تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك ؛اختزل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".
مع الاقتراب من موعد الإعلان عن بنود "صفقة القرن"، تكشفت سياسة الغموض الأمريكية عن وقاحة لا نظير لها في تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ المنحازة إلى المستعمرة الإستيطانية الإسرائيلية في التعامل مع القضية الفلسطينية، فقد أفصح كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، عن ملامح خطة السلام الأمريكية المزعومة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق في الثاني من أيار/ مايو الماضي. وتحدث دون مواربة أو خجل عن نهاية حل الدولتين، وأشار إلى ضرورة الابتعاد عن الحديث عن الحل السياسي، والمباشرة بخطة السلام الاقتصادي الذي يشكل مؤتمر البحرين نقطة ارتكازه، وذلك تماهيا مع أطروحات نتنياهو وأسلافه لتحقيق السلام المزعوم، حيث تقوم الخطة المفترضة على تطبيع العلاقات العربية- الإسرائيلية كشرط ضروري لتهميش القضية الفلسطينية، عبر خلق مناخ سياسي إقليمي يضمن علاقات عربية- إسرائيلية دافئة، تستوعب الجانب الفلسطيني، وتمارس عليه قدر كاف من الضغوط لقبول الطرح الأمريكي الذي يقوم على التعاون والتكامل الاقتصادي، عبر حزمة من المزايا الاقتصادية والاستثمارات الأمريكية والخليجية، وتجاهل مسلّمات القضية الفلسطينية كأنها غير قائمة، وتجاوز جوهر الصراع الأساسي، المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي، وإنكار حق الشعب الفلسطيني في العودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أرضه، عاصمتها القدس.
البنية التحتية لمشروع "صفقة القرن" باتت مهيئة لإعادة بناء الشرق الأوسط، عبر تصفية القضية الفلسطنية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية
تحالفات عسكرية
وقد كُشف النقاب للمرة الأولى عن تحالف "ميسا" خلال زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية في أيار/ مايو 2017، حيث نص "إعلان الرياض" على أن التحالف "سيساهم في تحقيق السلام والأمن في المنطقة والعالم". ويشمل التحالف دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، والكويت، وعُمان، وقطر، والسعودية والإمارات العربية المتحدة)، بالإضافة إلى مصر والأردن والولايات المتحدة، وتشارك فيه إسرائيل يصورة غير مباشرة. وكانت فكرته الأساسية تدور حول الأمن والدفاع، لكنها توسعت لاحقا بإضافة مجالات اقتصادية وسياسية للمشروع، في إطار مشروع "صفقة القرن".
يتوافق مثل هذا التحالف تماما مع تفكير ليس فقط إدارة ترامب (نظر، مثلا، استراتيجية الأمن القومي في كانون الأول/ ديسمبر للعام 2017، واستراتيجية الدفاع القومي العام 2018)، بل أيضا إدارة باراك أوباما. فكلتاهما بلورتا رغبة في خفض التموضع الأمني الأمريكي في الشرق الأوسط، حسب ياسمين فاروق، وهي باحثة زائرة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. إذ تدعو استراتيجية الدفاع لإدارة ترامب إلى "توسيع آليات التشاور الإقليمي" و"تعميق قابلية العمل البَيني" لتقاسم أعباء الدفاع عن حلفاء ومصالح أمريكا حول العالم. وتتطابق هذه الاستراتيجية في الشرق الأوسط مع تصميم الرئيس ترامب على تقليص المساهمة الأمريكية في الأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، وجعل الدعم الأمريكي مساويا لما تدفعه الدول الخليجية. فمن الآن وصاعدا، سيكون على الدول الخليجية أن تدفع أكثر لتأمين نفسها، بالإضافة إلى "تعويض" الولايات المتحدة عن كلفة الدفاع عنها طيلة العقود السابقة. كما تتوقّع إدارة ترامب من البلدان العربية، بقيادة السعودية، أن تواصل ضبط أسعار النفط، وأن تدعم السياسات الأمريكية ضد روسيا والصين في مقابل الرعاية الأمريكية لمشروع التحالف الجديد.
هؤلاء الثلاثة يفتقرون إلى أي تجربة في إدارة نزاعات دولية، ومن الصعب الإيمان بكونهم ملائمين للدفع قدما بمفاوضات تتعلق بنزاع معقد للغاية، مثل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين
"ازدهار من أجل السلام"
رغم لغط الأصوات العربية المنخرطة في المشروع الأمريكي، بالحديث عن رفضها علنا مقترحات صفقة القرن والتشديد على رفضها لأي حل لا يضمن حق الفلسطينيين في إقامة دولة عاصمتها القدس الشرقية، إلا أن ذلك لا يعدو عن كونه رطانة بلاغية للاستهلاك المحلي. فبالإضافة إلى الدول الخليجية، دخلت كل من مصر والأردن والمغرب؛ قائمة الدول التي ستشارك في مؤتمر البحرين المقرر عقده يومي 25 و26 حزيران/ يونيو الحالي، تحت عنوان "الازدهار من أجل السلام"، في إطار خطة السلام الأمريكية "صفقة القرن"، حسب ما نقلت وكالة "رويترز" عن مسؤولين أمريكيين. وكانت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، قد أعلنتا في وقت سابق عن مشاركتهما في المؤتمر؛ الذي تقول الإدارة الأمريكية إنه "يهدف إلى بحث مقترحات لدعم الاقتصاد الفلسطيني"، في إطار خطة سلام تستعد الولايات المتحدة لطرحها.
فشل بنيامين نتنياهو في تشكيل حكومة بإسرائيل؛ دعا الإدارة الأمريكية إلى تأجيل الإعلان عن الشق السياسي، والمضي قدما في تنفيذ الشق الاقتصادي
نظرة دونية
الحديث عن السلام الاقتصادي لم يغب يوما عن تصورات الحل الأمريكي الإسرائيلي، إذ لطالما كان الحل الاقتصادوي للقضيّة الفلسطينيّة خيارا مفضّلا في إسرائيل وأمريكا عبر العقود الماضية، حسب أسعد أبو خليل، فقد ورد في كتاب ثيودور هيرتزل الثاني "الأرض القديمة- الجديدة"، الصادر عام 1902، والذي تطري فيه الشخصيّة الفلسطينيّة "الوحيدة" في الرواية، رشيد بيك، على دولة إسرائيل، لأنها رفعت من مستوى الدخل للجميع، ما عاد بالنفع على الشعب العربي.
وهذا التصوّر الاقتصادي ينبع من نظرة دونيّة للشعب الفلسطيني، على أنه يسهل طمس طموحاته السياسيّة بمنافع اقتصاديّة، أي الرشوة على نطاق جماهيري. فالمقابلة مع كوشنر على محطة "إتش. بي. أو"، كما ظهوره أمام "مؤسسة واشنطن"، أظهر كم هو جاهل بتاريخ الصراع، وحتى بتاريخ "مسيرة السلام الأمريكيّة". هو يعيد اجترار كليشيهات يعلم الخبراء الأمريكيّون ثبوت بطلانها؛ من نوع: أن الشعب الفلسطيني لا يريد حقوقا سياسيّا، لكن التحريض من القيادة هو الذي يدفعه، أو أن رفع مستوى المعيشة من شأنه أن يطمس المطالب السياسيّة، أو أن تحقيق بعض الحقوق السياسيّة لشعب فلسطيني لا تتطلّب بالضرورة كيانيّة سياسيّة مستقلّة. وحتى الحل الاقتصادوي كان جزءا من مسيرة أوسلو، لكن المليارات التي وعدت الإدارات الأمريكيّة ودول الخليج بها لم تأتِ، وإن كان خلق طبقة المنتفعين وتفريخ مئات منظمّات الـ"إن. جي. أو" في الضفة فعل فعله؛ من ناحية جذب الشباب المتعلّم وإبعاده عن شعارات المرحلة التاريخيّة من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.
بدلا من السعي إلى إحياء المفاوضات وفق المرجعيات الدولية المعروفة، وفي مقدمتها قرارات الأمم المتحدة المتصلة بالأرض والموارد واللاجئين، تركز الخطة على "السلام الاقتصادي
سلام اقتصادي أو اقتصاد السلام
إن الموت الحتمي لمناهج السلام الاقتصادي ليس وليد الظروف الراهنة الكارثية بقدر ما يعكس إفلاسا متراكما للمفهوم نفسه، حسب رجا الخالدي، فمفهوم السلام الاقتصادي الذي روج له أصلا وزير خارجية أمريكا جورج شولتز في 1987، والقائل بضرورة "تحسين جودة حياة الفلسطينيين" بدلا من التجاوب مع مطالب "م. ت. ف" آنذاك، بالاعتراف بها ممثلا للشعب الفلسطيني وكطرف له حقوق وطنية. لكن دوام مفاهيم الترويض السياسي بواسطة الحوافز الاقتصادية ينسجم مع أقدم وأنجح أدوات السلطات الاستعمارية طوال التاريخ، وفي السياق الإسرائيلي الفلسطيني كذلك. كما أن مبادرة شولتز لم تكن سوى حلقة في سلسلة محطات مشابهة.
احتفظت إسرائيل بمفاتيح التحكم بالتجارة والطاقة والمواصلات والأراضي والمياه والموارد المالية الفلسطينية، والتلاعب بها كما تقتضي ذلك ضرورات فرض العصا السياسي أو الأمني