هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أمضيت وقتا طويلا في قراءة كلّ المبادرات التي تقدّمت بها أحزابٌ وهيئات ومنظمّات وعلماء ومفكرون وشخصيات وطنيّة، ووجدت فيها مساهمات قيّمة، وبعضها يرتقي إلى مستوى “خارطة طريق” لحلْحَلة الوضع وتجاوز حالة الاحتباس والمراوحة في المكان. لكنْ تنقصها آليات التّنفيذ، وتفتقر إلى الشّجاعة التاريخيّة لاستدعاء أطراف النّزاع إلى طاولة حوار وطنيّة تقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت، وتتوافق على “رزنامة إجرائيّة” للحلّ بشيء من التّنازلات المتبادلة.
فأين يكمن الخلل؟
البعض يرى الخلل في تعنّت السّلطة، وصمّ أذنيها عن سماع نداءات الحراك المتكرّرة كل يوم جمعة، ورفض الحوار مع بقايا النّظام، ودعوة “الباءات الثلاثة” للرّحيل كشرْط مبدئي للاستجابة لدعْوة الحوار.
ويردّ آخرون على هذا الرّأي بأنّ الحراك لم يقدّم بدائل سوى الحديث عن سيناريوهات لم يحصل بشأنها إجماعٌ ولا توافق، وأنّ الشّخصيات التي تمّ تداول أسمائها بعض الوقت، قد تم سحب أغلبها من بورصة التّداول السياسي لأسباب تاريخيّة وسياسيّة وإيديولوجيّة، وذهاب الموجود دون تقديم المفقود من شأنه إحداث فراغ مؤسّسي في هياكل الدّولة قد يعرِّض الوطن للفوضى! وبالمقابل أكّد رئيس الدّولة ـ في آخر خطاب له ـ أنه ماكثٌ في موقعه حتّى يتمّ انتخاب رئيس للجمهوريّة ليسلّمه الأمانة، بوصفه المخوّل الوحيد بتنفيذ مطالب الحراك. ويرى أنّ الحلّ يكمن في التعاون على تهيئة أجواء مناسبة لإجراء انتخابات رئاسيّة في أقرب الآجال. بينما الطبقة السياسيّة تداهن الحراك وتسايره خوفا على تنظيماتها من الانفجار والتفكّك. أما النّخب فقد وجدت نفسها بين مطرقة العواطف وسندان العواصف.
ما هو الحل؟ أو ما هي المقاربة المنتظرَة؟
أمام هذا الوضع، تتّجه الأنظار كلُّها إلى المؤسّسة العسكريّة، التي استندت على حرْفيّة الدّستور لتفكّك ما أسمته “العصابة” التي كانت تهدّد كل من يتنفّس بـ”خبر عاجل” ينهي مساره المهني، ولو كان يعتقد نفسه “ربّ الدّزاير”.
وقد نجحت في هذا المسعى الدّستوري ـ حتى الآن ـ بإسقاط الخامسة، وتبديد حلم التّمديد، وجرّ كثير من الأوزان الثّقيلة إلى أروقة القضاء، ومحاصرة البارونات ومنعهم من الفرار برّا وبحرا وجوّا، وهو واجبهم الدّستوري في حماية الإقليم وفقا للمادة: 28 منه. ونجاح المؤسسة العسكريّة قد زاد في منسوب احترامها من ثلاث جهات:
1ـ الشّعب الذي يراها المخوّل الوحيد لتطهير الوطن من القوّى غير الدّستوريّة، وتخليص البلاد من بقايا النّظام الأحادي ومن مافيا العقار والمال السّياسي ونهب المال العام، ومن النباتات المتسلقة.
2ـ القوّى السياسيّة والنّخب والمجتمع المدني، التي اكتشفت أنّها كانت تعيش خارج مجال التغطيّة منذ عشر سنوات: 2009/2019، يُحكَم باسمها ولا تدري.
3ـ الجهات الخارجيّة التي منحت لهذه المؤسسة العلامة الكاملة في مكافحة الإرهاب، وفي حماية الوحدة الوطنيّة، وفي الحفاظ على أمن البلد واستقرار مؤسسات الدولة.
انشغال المؤسسة العسكريّة اليوم هو تشجيع أبناء الجزائر على الالتقاء والتشاور، للوصول في أقرب الآجال إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة، وفق مقاربة دستوريّة تسدّ باب أيّ فراغ محتمل، وتحُول دون الذّهاب إلى مرحلة انتقاليّة مجهولة المسالك صعبة المخارج. وقد أكّدت الأيام أن كثيرا من دعاة المراحل الانتقالية يخفون أجندات غير بريئة، كما صرَّح بذلك بعض رموزهم في الدّاخل وبعض منظّريهم في الخارج. وهكذا أدى الزّمن دور “فكّ الطلاسم” القديمة، فصارت الرّؤية أكثر وضوحا مما كانت عليه قبل فتح ملفّات الفساد، وفهِم الرّأي العام أنّ الجزائر كانت تحكمها قوّتان:
1ـ قوّة سياسيّة، جيّرتْ الأحزاب والمنظّمات والنّقابات والمجتمع المدني، للتّمكين لها في السّلطة عن طريق الرّشاوى والابتزاز والتّحايل والتّزوير والتّفصيل على المقاس.
2ـ قوّة ماليّة، اشترت مواقعها السّياسيّة بالمال الفاسد، ثم شكّلت “كارتل ماليّا” بأرقام فلكيّة، تتحكّم به في مفاصل الدّولة من البلديّة إلى رئاسة الجمهوريّة.
في زمن حكم هاتيْن القوّتيْن صار كل شيء، في بلدي، قابلا للبيع: الأحزاب، الجمعيات، النقابات، الاتحادات، الشّهادات الجامعيّة، أصوات النّاخبين، المناصب الحسّاسة في الدّولة. وحتّى الضّمائر والأعراض والقيّم والمنظومة التّربويّة والأسريّة والمسجديّة وثوابت الأمّة وقيّمها وتاريخها وعقول مفكّريها ونخبها. وصارت كلّ هذه المُشكلات مختَزلة في شخص رجل واحد، فلما مرض مرضت الجزائر، ولما دخل المستشفى دخل معه الوطن كلّه غرفة الانتظار السّياسي وظل ينتظر شفاءه تسع سنوات، فلما طال مكوثه بالمشافي، تواطأ حرّاس المعبد مع القّوى غير الدّستوريّة على انتحال شخصيّة الرّئيس والتحدّث باسم مؤسّسة الرئاسة، ووضعوا مخطّطا لاقتسام “تركة الرّجل المريض” وفرضوا ترشّحه للخامسة، وهو ثاوٍ بسريره في مستشفيات سويسرا ليستكملوا، باسم ختم الجمهوريّة، ما بقي من مسرحيّة “ترشيح الكادر”.. والبقيّة تعرفونها.
تشخيص الأزمة صار في متناول الرّأي العام، لكنْ تقديم العلاج مازال بحاجة إلى إعادة قراءة كل ما طُرح على السّاحة من مبادرات، والاستماع إلى صوت العقل، والاستئناس بآراء الخبراء في القانون الدّستوري والضّالعين في الشأن السّياسي وأصحاب الخبرة والحنكة، لبحث نقطة واحدة هي: كيف نحوّل شعارات الحراك إلى أصوات انتخابيّة؟ أو بتعبير دارج: “كيف نُدخل قوّة الشّارع في صناديق الاقتراع” ليكون الرّئيس المقبل للجزائر من شباب الحراك، لأنّ نجاح الحراك في “غزو الصّندوق” هو الطريقة الوحيدة التي تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد:
1ـ عصفور الحالمين بالعودة إلى الحكم عن طريق التّعيين أو “الكوطا” والرّهان على عامل الوقت.
2ـ عصفور الدّاعين إلى إطالة عمر الأزمة ليلتقطوا أنفاسهم ويعيدوا ترتيب أوراقهم، ويعيدوا نسْجَ شبكة المال والسّياسة التي فكّكها القضاء.
3ـ عصفور الملوِّحين بأشباح عودة “الرّبيع العربي” الذي تلافته الجزائر سنة 2011، بعد “ثورة السكّر والزّيت”.
تحالف الجيش والحراك بشعار: “جيش شعب.. خاوة خاوة” يتيح الفرصة لفتح أبواب حوار جاد، ترافقه المؤسّسة العسكريّة وترعاه وتضمن تنفيذ مخرجاته، التي سيكون على رأسها تأسيس هيئة وطنيّة لتنظيم الانتخابات والدّخول في منطق السّباق نحو قصر المراديّة، وسوف تكون الرّقابة الشّعبيّة سندا لهذا التوجّه وضمانا لشفافيّة الانتخابات ونزاهتها، وإذا نجحت هذه التّجربة فسوف يكتب التّاريخ السيّاسي أنّ الشّعب الجزائري قد حرّر شعوب العالم الثالث من بدعة رئيس مدى الحياة، ووضع نقطة النّهاية لثقافة “الزّعيم الأوحد”، وتقنيّة التّصويت نيّابة عن الشّعب على رئيس لا يخلعه من كرسيّه سوى الموت، أو ثورة شعبيّة تأكل الأخضر واليابس، كحال تونس، مصر، ليبيا، اليمن.. وآخرها السّودان.
ما تراكم من فساد سياسي ومالي وإعلامي واجتماعي خلال سنوات كثيرة من عمر الاستقلال، لا يمكن هدمُه في 90 يوما، تحدّدها المادّة 102 من الدّستور، فتحالف الجيش والشّعب قد نجح في الإمساك برأس خيط الشّبكة، وعلى الرّأي العام أن يدرك أنّ خيوطها عابرة للقارّات. والمطالبة برحيل الجميع تعني بقاء الجميع، والدّعوة إلى رحيل “الباءات الثلاثة” هي دعوة إلى إسقاط ثلاث شجرات تغطّي غابة منهوبة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية