هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اشتهر العز بن عبد السلام في التاريخ الإسلامي، أنه من أولئك الذين
اقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا مؤلفاتهم وتصنيفاتهم، على رغم جهده وغزارة علمه في
جانب التأليف، لكن ذلك لم يكن ليشغله عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام عند الخطأ،
والجهاد ضد أعداء الأمة يومها من الصليبيين ومن ثم المغول. سيرته ومواقفه تصلح
اليوم لاستحضارها من عمق التاريخ وإبرازها للأمة، بعد أن ظهرت من جديد نماذج من
علماء، تعارف الناس قديما وحديثا على تسميتهم بعلماء السلاطين، الذين اشتغلوا
بالدين لدنياهم ودنيا غيرهم.
لكن
دون مقدمات طويلة، فإن ما صدر عن الشيخ عائض القرني قبل أيام في برنامج تلفزيوني،
يبين لك معنى كيف يكون سقوط أو ثبات العلماء وقت الفتن والأزمات. ففي الوقت الذي
يقبع بالسجون أكثر من مائة عالم وداعية ومفكر وكاتب في السعودية، لا ذنب لهم سوى
أنهم في تضاد مع توجهات النظام الحالي، يأتي القرني ليصول ويجول في البرنامج،
ليعلنها أمام الملأ أنه سائر عكس ما عليه أولئك القابعون بالسجون في بلده. أو هكذا
لسان حاله نطق.
سواء
كان ما صدر عنه في البرنامج بتوجيه وإعداد مسبق من جهات أمنية أو ما شابه، أو
حماسة مفرطة من لدنه، فإن رصيده الذي صنعه طوال ثلاثة عقود مضت هي غالبا في حكم
التبخر والتلاشي، فلا هو أرضى بتصريحاته وكلماته من كانوا في صفه أو ضمن دائرة
الإعجاب به وبعلمه ومنطقه، ولا أرضى المعادين لفكره وتوجهاته منذ زمن، فالانتقادات
جاءته من الطرفين بعد البرنامج، فصار كالمنبتّ لا أرضا قطع ولا أبقى ظهر !
لا
أشك لحظة في أن القرني منذ بدء محنة العلماء والمفكرين السعوديين منذ أكثر من عام،
وهو في حيرة من أمره. هل يسير مع موكب أولئك الذين تم تغييبهم في السجون
والمعتقلات، أم في موكب النظام والحكم الجديد؟ ولم يطل انتظاره كثيرا، إذ خرج وقرر
ترك زملاء الدرب يخوضون تجربة السجن والقيود والأغلال، ويمضي هو في سكة أخرى مع
النظام وتوجهاته. أو هكذا تقول أفعاله وأقواله منذ أكثر من عام ونيف.
لا
شك في أن ما حدث للقرني قد يحدث لأي شخص يعيش في عالم الأضواء والشهرة
والامتيازات، لاسيما إن كان ضمن دائرة العلماء، وهم الفئة الأبرز والأكثر تقديرا
واحتراما وتبجيلا عند العامة.
ما يحدث للقرني الآن وغيره عدد من العلماء ممن كانت لهم عند الناس
مكانة مرموقة، لا يمكن تفسيره سوى الاستسلام السريع للسلطان، دون إبداء شيء من
المقاومة، بل يحدث الأغرب من هذا أن يتحول هؤلاء إلى ملكيين أكثر من الملك، ويصير
التنافس على إرضاء السلطان غاية وهدف، ويكون التنصل من الماضي سريعا، بل بعضهم يصل
به الحال إلى إنكار ما كان أو ما قد صدر عنهم من أفعال أو أقوال، في مشهد يرثى له.
لقد
ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف كثير من علماء السلاطين،
وساعدت على رصد ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان
عليه أحدهم قبل وبعد. أي يوم أن كان عالما يعمل لدينه ويبتغي رضا خالقه، ويوم أن
تحول ليشتغل بدينه لدنيا غيره، على اختلاف مآربهم ومشاربهم.
إن
التقرب من السلطان أمر محفوف بالمخاطر، لأن هذا القرب غالبا لا يأتي بنتائج تُحمد
عقباها، وشواهد التاريخ أكثر من أن نحصيها ها هنا. ومن يقول بقدرة العالم على
التوازن والتوسط بين السلطان وشعبه، إنما هو أمر أو قول مشكوك فيه. ذلك أن العالم
حين يكون في منطقة وسط بين صاحب الأمر والقرار وبين الناس، لا شك أنه بمضي الوقت
ولقوة جواذب ما عند صاحب الأمر، تجده قد مال تلقائيا إليه وابتعد عن الناس حتى
يدخل حيز السلطان، الذي إن دخله، فلا خروج عنه بسلام أو أمن وأمان.
الثبات
في المحنة يعني البقاء على المبادئ التي تؤمن بها وتحمل الألم المادي والمعنوي،
أما الاستسلام فيعني بقاء الامتيازات وزيادتها والتقرب إلى السلطان درجة أخرى ولكن
إلى حين من الدهر لا يطول عادة. هذا ما بدا على القرني وعدد ممن ساروا في الموكب
نفسه، من خلال تحليل وتفسير أفعالهم وأقوالهم في الفترة الأخيرة.
وهذا
قرارهم وهم من يتحملون تبعاته ونتائجه، ولا يمكن أن يلومهم أحد كثيرا، لأن اللوم
في الحقيقة يجب أن يكون على من تنازل وسلّم عقله لكل من هب ودب، يصنع به ما يشاء..
سائلا الله عز وجل ختاما، أن يحفظنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبت
قلوبنا على دينه، فالقلوب بين يدي الرحمن يقلبها كيف يشاء، فاسألوا الله الثبات.
عن صحيفة الشرق القطرية