هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
سافرت إلى الجزائر العاصمة سابقا في إطار رسمي لكن لم يتح لي التعمق في أجوائها والسفر بين ظهرانيها مثلما أتيح لي في الأسبوع الماضي، عندما ذهبت في إطار دعوة أكاديمية لمدينتين، واحدة تمثل "الغرب" (وهران) والأخرى تمثل "الشرق" (قسنطينة). كانت مناسبة لمشاهدة عينية ومباشرة للحراك الشعبي، خاصة في أطراف البلاد، والانغماس عميقا بين الناس، ومشاهدة وتحسس تفاصيل الحياة اليومية.
عليّ البدء بالقول إن الأجواء الجزائرية الراهنة، وخاصة حراكها الشعبي، تحيل على حالة خصوصية في السياق الإقليمي، وتعكس موازين قوى جديدة، أصبحت فيها قوة ناشطة ميدانية تمثل مختلف شرائح الشعب الجزائري قوة دافعة بتؤدة، لكن بثبات نحو الضغط على منظومة حكم مهترئة وتقرأ بكل انتباه أي خطوة جديدة، ممثلة أساسا في نقطة الثقل لديها، أي قيادة "الجيش الشعبي الوطني". عموما، تقفز للذاكرة جراح عميقة كلما تحرك الجزائريون بأعداد ضخمة واحتلوا الشوارع. فذكرى تشرين الأول/ أكتوبر 1988 الدموية ماثلة في البال، طبعا "العشرية السوداء" أيضا، وكأن هناك تعلما متبادلا بين النظام والشعب حول طريقة الاحتجاج، بما لا يسمح بالدموية مجددا.
لا يتعلق الأمر بإيمان بمُثل أخلاقية في رأيي، بل ببساطة بحالة تعب واهتراء، أيضا بتلقيح شامل ضد عبثية أي صراع دموي. إذ ربما توجد دول قليلة جدا نزل فيها الصراع السياسي المسلح إلى درجة أكثر انحطاطا ووحشية مثلما حصل في الجزائر. صحيح أن العديد من الشبان الذين ولدوا في التسعينيات، وهم أحد مصادر عصبية الحراك الراهن، لم يعيشوا تلك الفترة العصيبة، لكنها تبقى ماثلة في الأذهان. ولذلك تحديدا، وليس بسبب نسيانها، مثلما يقول البعض، يتجه الطرفان المتقابلان، عصب نخبة الدولة (قيادة الجيش) والشارع إلى الاقتصار على لعب الشطرنج بدم بارد ونفس طويل. كل يراهن (طبعا وبداهة) على الوقت، فالوقت واستنزاف الخصم من خاصيات الجزائر.
سواء في وهران، حيث انتقلت مدينة أوروبية (خاصة بساكنيها الإسبان، ومنهم الكثير من أعضاء "المنظمة السرية") بين ليلة وضحاها إلى مدينة جزائرية في أرياف الغرب، إثر إعلان الاستقلال، أو قسنطينة، حيث يوجد أحد الأمثلة النادرة على استمرارية نخبة مدينية محلية، في مواجهة الآلة التدميرية الكولونيالية للذاكرة، وحيث ردم أيضا ساكنو الريف الوجود الفرنسي في 1962، فنحن إزاء تغيرات حدية. يصعب في الجزائر "التوافق"، لكن الصراع يستمر في الزمن أيضا، ولا يحسم بسرعة.
التغير الجدي الذي يستغرق في الوقت بتؤدة؛ يجد صداه أيضا في ميزة هيكلية مهمة، أي سطوة الأرياف والأصل الريفي على المدينة. تلك الذاكرة الريفية القوية لا تزال شديدة الوطأة، ونجد أثرها حتى في اللكنة واللهجة. لكن الأهم أننا نجد أثرها في التبرم من مبدأ "النخبة" ذاته.
يصمت الجزائريون فترات طويلة لكن فقط لخلق ما يكفي من الأسباب ليملؤوا الساحات والميادين والجبال بلا شفقة، لمحو نخبة سابقة. هناك غضب كبير من "النخبة". تلك التي قادت الاستقلال ومعارك التحرير، النخبة التي خاضت معارك التصفيات الداخلية قبل واثر الاستقلال، في "جيش التحرير" و"جيش الحدود"، ثم "نخبة النفط" و"سوناطراك"، و"الإصلاحات الزراعية"، وأحلام بومدين التي فاضت على جانبيها، ثم نخبة ورثة الزعيم الكبير.
الآن توجد سردية متعاظمة ترسخت خاصة إثر عودة بوتفليقة، وخاصة مع اندحار حكمه، حول "جماعة وجدة"، وسيطرة ما تبقى من مجموعة بومدين التي أتت ذات صيف في 1962 من "الحدود" لتصفية "جيش التحرير" المنهك، وقطف ثمرة السلطة لتضعها لدى "ضباط فرنسا".. سردية مؤامراتية بتفاصيل مثيرة وبصفاء كبير إلى حد لا يجعلنا نصدقها بتمامها وتحمل مسؤولية كل ما حصل لها. تتنافس تلك مع سردية "الجيش الوطني الشعبي" الذي لا قدر للجزائر دون تسييره للأمور، ودون تقديره للخطأ من الصواب.
يعني ذلك أن هناك فراغا في "القيادة". لا نعلم بعد هل أن اندحار أويحيى سيعني اندحارا نهائيا لحزبه، أي حزب الإدارة، ممثلا في "التجمع الوطني الديمقراطي". لا نعلم هل أن الاهتراء الكاريكاتوري لحزب السلطة والرمزية التاريخية المهترئة اي حزب "جبهة التحرير" سيعني امتصاص كل قدراته للبقاء. ولا نعلم هل أن "الجيش الوطني الشعبي" وذراعه الاستخبارية المستردة من مؤسسة الرئاسة؛ ستستطيع الحفاظ على خيوط اللعبة كما فعلت دائما.
ولا نعلم هل أن تشكيلات المعارضة الرسمية التي انخرطت بهذا الشكل أو ذاك في لعبة "دولة بوتفليقة"؛ ستسترد بعض العذرية وتجد بعض الصدى في الانتخابات.
ولا نعلم، بعد إن كانت "جبهة الإنقاذ"، الحزب المعني باطلا أو حقا بـ"العشرية السوداء"، سيقبع في شعارات التسعين وحلم "الدولة الإسلامية" الصافي ("عليها نبقى وعليها نموت")، مثلما تردد في جنازة شيخها المتوفى عباسي مدني، كأنها لحظة ممنوحة من آلة الزمن.
لكننا لا نستطيع إلا أن نعلم أن هناك مساحات كبيرة من الفراغ في "القيادة"، بذات المساحات الكبيرة للحراك الشعبي الملهم الحالي.
سنبقى نراقب بكل انتباه وشغف، أيضا بإعجاب، هذا الربيع الجزائري المميز الذي لا يشبه أي حالة أخرى، حيث يمكن أن نتردد في فهم الكثير من الأشياء، لكن لا يمكن أن لا نرى بريق الثورة والحيوية في أعين شابات وشباب الجزائر. وإنه مهما اختلف الجزائريون فيما بينهم، فإن "النيف" (الأنفة الوطنية) يجعلهم يرفضون أي تدخل من أي نوع كان من الآخرين في تحديد ملامح المستقبل. سيحاول الكثيرون ذلك طبعا، لكن لعل تلك الحالة القوية من الإيمان بالوطن تجعلنا نطمئن أن التغيير إن حدث، سيتم بسواعد جزائرية أصيلة.