يقف دونالد
ترامب الرئيس الأمريكي عاجزاً ومرتبكاً أمام التفوق الصاروخي الروسي، ويذهب إلى حد القول إن سباق التسلح أصبح مكلفاً على أمريكا، فراح يدعو إلى عقد اتفاقات تتعلق بالتسلح، وهو الذي أعلن خروج أمريكا من اتفاق الصواريخ النووية المتوسطة المدى، فيما أعلن مستشاره الصهيوني (حتى العظم) جون بولتون؛ عن ضرورة تطوير القنبلة النووية الصغيرة، والتي يمكن استخدامها في حروب محدودة وضمن مدة قصيرة. وهي دعوة لسباق تسلح، تماماً كما كان إعلان دونالد ترامب الخروج من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى؛ دعوة لسباق تسلح.
ولهذا، تذكّر عدد من المعلقين ذلك "الزمن الأمريكي"، حين فرض الرئيس الأمريكي رونالد ريغان سباقاً للتسلح حول التفوّق في حرب النجوم. وقد عزا البعض انهيار الاتحاد السوفييتي لانسياقه وراء سباق التسلح في ميدان حرب النجوم، مما أرهق الموازنة إلى حد أسهم في انهيار الاتحاد (طبعاً هذا تفسير سطحي في تأويل أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي)، كما كان تفسير الانهيار السوفييتي في أفغانستان بسبب المقاومة الأفغانية التي ألحقت هزيمة بالاحتلال، سطحياً كذلك. طبعاً قد يكون لهذين السببين تأثير ما، في المعنويات أو الموازنة، ولكن بالتأكيد ليسا بالسببين الأساسيين أو الرئيسيين؛ لأن السبب الأساسي جاء مما أصاب قيادة الاتحاد السوفييتي من شيخوخة وتصلُّب شرايين وفساد، وما دبّ داخلها من
صراعات وتناقضات. وقد شبهها البعض بالسمكة التي تفسد أول ما تفسد من رأسها.
هذا التذكير بإطلاق أمريكا في عهد ريغان لحرب النجوم؛ يكشف عن الضعف الأمريكي العام الراهن الذي يدفع رئيساً "حربجياً" مثل دونالد ترامب إلى الهروب من سباق تسلح، كان أول من دفع باتجاهه، علماً بأن سباق التسلح شرط أساسي في حياة الرأسمالية الإمبريالية.
باختصار قيادة ترامب تقف عاجزة أمام ما حققته روسيا بوتين من تفوّق في مجال الصواريخ، وغيره من المجالات العسكرية كذلك، وإلاّ كيف ينتقل إلى خيار البحث عن معاهدات جديدة تخص التسلح في ما بين الدول الكبرى.
هذا ويقف دونالد ترامب الرئيس الأمريكي عاجزاً مرتبكاً أمام الاقتراب الشديد للاقتصاد الصيني من التفوّق، أو احتلال المركز الأول، دافعاً أمريكا لقبول الرقم 2. وهذا بُعد ليس بالسهل، خصوصاً وأن التفوّق الصيني لا يقتصر على حجم الاقتصاد الصيني، وإنما يمتد إلى المنافسة بتقنيات العقل الاصطناعي، هذا إذا لم يكن التفوّق الصيني قد حصل. والدليل، التصرف التآمري الاستبدادي الذي مارسته الحكومة الأمريكية لاعتقال مديرة شركة "هواوي"، بدلاً من التنافس الميداني في السوق، وذلك من خلال تلفيق القضايا الاتهامية، والذهاب إلى المحاكم.
باختصار، قيادة ترامب تقف عاجزة في المجالين الاقتصادي والتقني أمام تفوّق صيني مدعوم بقوة عسكرية؛ ليس بمقدور أمريكا تجريب "حظها" معها.
على أن دونالد ترامب الذي يقف عاجزاً في مواجهة التفوّق العسكري الروسي والتفوّق الاقتصادي والتقني الصيني، هرب إلى فتح ما يشبه الحرب (حتى الآن) ضد فنزويلا وكوبا وإيران وفلسطين، وذلك بهدف تحقيق إنجاز قد يعوّضه، ولو معنوياً، عما فقده أمام المنافسة الروسية والصينية، آنفة الذكر. وبالمناسبة، الهند في الطريق لتسبق أمريكا اقتصادياً.
نقطة القوة الرئيسة التي تمتلكها أمريكا في حربها ضد فنزويلا وكوبا وإيران تتجسّد بسيطرتها على المؤسسة المالية العالمية (التحكم بالدولار وبالنظام المصرفي العالمي)، ومن ثم إنزال عقوبات مالية واقتصادية بالمعنيين ومحاصرتهم (تشديد الخناق عليهم)، من خلال إرهاب كل من يخالف العقوبات من دول وشركات؛ بإنزال عقوبات مماثلة ضدهم.
نقطة القوة الرئيسية هذه جاءت بسبب القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، لإزاحة بريطانيا عن زعامة الإسترليني، ومن السيطرة العالمية خلال العقدين (الخمسينيات والستينيات)، ليحل الدولار عام 1971 بدلاً من الإسترليني والضمان الذهبي للعملة، وفي الوقت نفسه السيطرة على النظام المالي العالمي. ولهذا، فإن استمرار هذه القوة يعود إلى الماضي وموازين القوى فيه. وهو يفتقر الآن للأسباب التي وضعته في تلك المكانة، الأمر الذي يجعل استمرار السيطرة الأمريكية الاقتصادية والمالية، وفي مقدمها الاستفراد العالمي للدولار، مسألة وقت.
وقد أصبح إنهاء هذا الطغيان العالمي المالي على رأس أجندة الدول الكبرى، كما على رأس أجندة حركة التحرر العالمي من السيطرة الإمبريالية الأمريكية. فأمريكا تتشبث اليوم بسيف الماضي، وليس بسيف الحاضر. وهذا الحسم هنا (التصحيح) يحتاج إلى سنوات قادمة، وقد احتاجت أمريكا لإزاحة الإسترليني والذهب إلى عشر سنوات بعد تصفية السيطرة العالمية للاستعمار القديم في الخمسينيات، وإلى عشر سنوات أخرى لضرب حركات الاستقلال التي تمثلت بدول باندونغ.
وبكلمة، كان لا بد من أن تخسر أمريكا سيطرتها العسكرية والسياسية أولاً، لتبدأ بخسارة سيطرتها الاقتصادية والمالية لاحقاً.
وعودة إلى موضوع الاستراتيجية الهجومية لإدارة دونالد ترامب بتركيزها على فنزويلا وكوبا وإيران وفلسطين بعد أن تراجعت، مؤقتاً، عن إعطاء الأولوية، أو في الأدق، التركيز، لمواجهة روسيا في سباق التسلح العسكري، ولمواجهة الصين اقتصادياً وتقنياً.
إنها عملية تعويض جزئي إذا ما "نجحت" بداية في فنزويلا، وبعدها كوبا في أمريكا اللاتينية، وإذا ما "نجحت" في منطقتنا العربية- الإسلامية، ضد إيران ومن ثم فلسطين أو العكس. ولكن هذا التعويض المبني على استضعاف فنزويلا ومن بعدها كوبا؛ يجب أن يفشل. وثمة مؤشرات غالبة على فشله، بما في ذلك، إذا انتقل إلى تأجيج فتنة داخلية مسلحة أو شبه مسلحة في فنزويلا، بل وحتى إذا ما وقع تدخل عسكري أمريكي مباشر أو بالوكالة من خلال كولومبيا. فقد أثبتت الوقائع أن الانقسام الشعبي ما زال في مصلحة الرئيس الشرعي نيكولاس مادورو، من حيث العديد والتأييد، وأن الجيش يقف إلى جانبه ولم يستجب لكل التهديدات أو الإغراءات، وأن تشكّل قوات شعبية يعطي ضمانة أكبر لإفشال التآمر الأمريكي؛ لأنه قد يعني المقاومة المسلحة في حالة الغزو العسكري. وبهذا عندما ستتعرض كوبا للعقوبات والحصار، وهو تكرار ما واجهته وصمدت في وجهه منذ العام 1958، ستكون في موقع أقوى مع صمود فنزويلا.
أما على المستوى الفلسطيني، فليس أمام مشروع ما يسمى "صفقة القرن" غير الفشل والإجماع الفلسطيني يرفضها، وعدم تجرؤ مسؤول عربي (حتى المتواطئ) أن يعلن دعمه أو تأييده لها. فإذا كان الهدف من الصفقة هو ما أشيع مؤخراً باعتبارها تثبيتاً للواقع القائم، فهذا الواقع القائم سيظل تحت رحمة الوضع الشعبي المقاوم والمتفجر في القدس والضفة الغربية، ففرض واقعا في الصراع لا يقتصر على أمريكا والعدو الصهيوني، وإنما أيضاً على الشعب الفلسطيني المتأهب للمقاومة والانتفاضة، وإنجاز انتصارات على الأرض، كما هو حادث في قطاع غزة، وما هو حادث في المسجد الأقصى، وفي القدس والضفة الغربية عموماً، من أشكال مقاومة يومية ستصل إلى الانتفاضة الشاملة التي في طريقها لتفرض دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط.
أما إذا جاء الدور إلى إيران، وقد وضع ترامب كل ثقله لفرض حصار خانق عليها، ولكنه حتى هذه اللحظة لم يحصد غير التحدي والمواجهة، بما راح يدفعه لفرض المزيد من الضغوط والحصار من خلال رفع الإعفاءات التي فرضت عليه سابقاً، كما من خلال التهديد بمنع إيران كلياً من بيع نفطها، وصولاً إلى التلميح بفرض ذلك من خلال مضيق هرمز. وهي خطوة مغامرة غير محسوبة، ستؤدي إلى إغلاق هرمز على الجميع، مما يعني الحرب ولا بديل آخر غير الحرب. وهذا بحد ذاته يقلب السحر على الساحر ويضع أمريكا ورئيسها في مأزق الهزيمة المدوية، إما بسبب التراجع الأمريكي عن تنفيذ تهديدات ترامب، أو بسبب حرب لن تكون نزهة بالتأكيد بالنسبة لأمريكا. والفشل هنا ينتظر ترامب كيفما فعل.