قضايا وآراء

تجاذب "الدستوري" و"السياسي" في حراك الجزائر

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

حافظ الحراك الجزائري على إيقاعه الشعبي ونَفسِه السلمي، كما ظل متمسكاً حتى الجمعة السابعة، منذ انطلاقه في 22 شباط (فبراير) الماضي، بجوهر شعاراته ومطالبه، أي إلغاء العهدة الخامسة، ورحيل منظومة النظام ورموزها. 

 

صورة مشرفة للحراك الشعبي

ولئن أقدمت قيادة الجيش على الدعوة إلى تفعيل أحكام الدستور، وتحديدا الفصل 102 منها، وإعمال  الإجراءات المكملة له، فإن الرد المباشر للشارع الجزائري عبر عن عدم الاقتناع بما حصل، وأكد على الاستمرار يقظا ومعبئاً إلى حين تيسير شروط القطيعة مع منظومة النظام وتأسيس شرعية جديدة، أي بناء جمهورية ثانية، يتطلع الجزائريون أن تكون حاضنتها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

قدمت الجزائر حتى حدود الجمعة السابعة من حراكها الشعبي صورة مُشرفة عن موجات الحراك التي شهدتها وما زالت تشهدها المنطقة العربية، سواء من حيث الطابع السلمي والحضاري، أو من ناحية وحدة المتظاهرين والتفافهم الجماعي، أو من زاوية الشعارات والمطالب، بل هناك إبداع جماهيري لافت في مسار الحراك وفصوله. بيد أن الصورة المشرفة للحراك مرتبطة بشكل عميق، من حيث استمرارها وديمومتها، بمقدار الانجازات والنتائج التي ستحصل عليها في الميدان، والحال أن مقدار الانجازات مرتهن بدوره بميزان القوى الناظم لعلاقة القوى المتفاعلة في الساحة الجزائرية.

 

قدمت الجزائر حتى حدود الجمعة السابعة من حراكها الشعبي صورة مُشرفة عن موجات الحراك التي شهدتها وما زالت تشهدها المنطقة العربية


لا شك أن عملية فرز ظهرت بوادرها الأولى في الأسبوعين الأخيرين من الحراك، حيث هناك من جهة الشارع بكل مكوناته وأجياله، ومن جهة أخرى هناك المؤسسة العسكرية بثقلها التاريخي ومكانتها المحورية في هرم الدولة، وفي الطرف الثالث هناك روافع النظام ومصادر قوته السياسية والاقتصادية والمالية، ويبدو حتى الآن أن الجيش مازال معضداً لمسيرة الشارع، ومستوعبا لشعاراته، ومتفهما إلى حدود معينة لمطالبه، كما يبدو أن روافعَ النظام ومصادر قوته آيِلةٌ إلى الضعف والإضعاف، وأن أرصدةَ قوتها ستتآكَل بالتدريج، طالما بقيت أيادي الجيش ممتدةً إلى الحراك ومتفهمة لمطالبه.. وفي النهاية طبيعة ميزان القوى هي التي ستمتلكُ سلطةَ الفصل في الحراك العميق والمهم الحاصل في الجزائر. 

 

المخارج الدستورية

توحي الجزائرُ، من جهة أخرى، بأن ثمة نقاشاً واسعاً بين نخبها ومكونات مجتمعها حول المخارج  الدستورية لما هو حاصل في ربوعها. وقد لاحظنا التمسك الكثيف من قبل الشارع والجيش معا بوثيقة الدستور وأحكامه، وكيف أن كل واحد منهما استحضر الفصول التي تتناغم مع تطلعاته، فبينما أراد الجيش إيقاف العهدة الخامسة وإقالة الرئيس، لفتح الطريق أمام مرحلة انتقالية بدون تغييرات جوهرية،  لجأ إلى الفصل 102، في حين شدد الحراك على خطورة الاكتفاء بهذا الفصل وإجراءاته، واستحضر بقوة المادتين السابعة والثامنة، بوصفهما من الأحكام أو المبادئ العامة المشخِّصة للسيادة والسلطة التأسيسية في يد الشعب، وهو ما يعني أن هذا الأخير، أي الشعب، بمقدوره، طالما أنه مالك السيادة، عدم التقيد بالفصل 102 والدعوة مباشرة ، استناداً إلى أحكام المادتين السابعة والثامنة، إلى وضع أسس جديدة للتغيير الذي ينشده الشارع.

 

لا شك أن الانحياز المطلق إلى مطالب الحراك، سيتطلب منه الكثير، وربما ستكون له كلفة من زاوية تضارب المصالح


ففي الواقع، يعكس هذا التمسك الكثيف بأحكام الدستور، وإن من زوايا مختلفة، وجودَ تجاذب غير معبر عنه صراحة بين "الدستوري"، أي الاستغاثة بالدستور والاحتماء به، و"السياسي"، أي ما لا يُقال صراحة، ولكن يوجِّه النوايا والتطلعات في الممارسة. والحقيقة أن ما يجري في الجزائر عملية سياسية بامتياز، وأن مخارج الصراع فيها مرتبطة بالسياسة أكثر من اللباس أو الرداء الدستوري الذي يسعى الجيش والشارع معا إلى الاحتماء به.. وإلا كيف نفسر استمرار اللَّازمة التي رددها الحراك وما زال يرددها، أي رحيل النظام ومنظومته كاملة. لذلك، لن يستطيع النقاش الدستوري في الجزائر، مهما كان عمقه ونوعية اجتهاداته، نقل الجزائر إلى طريق التغيير الذي ينشده الحراك، ما لم يعزز بإرادة سياسية للتغيير المنشود، وهي إرادة يملك الجيش دورا مفصليا في التعيير عنها، والذهاب بعيدا في تنفيذها وأجرأتها. 

 

خيارات الجيش للتعامل مع الحراك

لنطرح فرضيات ونحن نفكر في الدور المفصلي للجيش في الوضع الحالي في الجزائر، ونتساءل: هل بإمكان المؤسسة العسكرية تعميق تجاوبها مع الحراك (الشعب)، وهي في الواقع جزء منه، والذهاب إلى حد اجتراح تأويل عميق للفصلين السابع والثامن من الدستور، بما يسمح بوضع أسس إجرائية جديدة لإعادة بناء شرعية ومؤسسات جديدة، يكون لمشاركة المواطنين الحرة والنزيهة الدور المركزي فيها؟.  ومن جهة أخرى، هل في مستطاع الحراك أن ينتقل نوعيا في قادم الأيام من وضعه الحال إلى وضع جديد، يستطيع خلاله تنظيم صفوفه، وإفراز نخبة قادرة على قيادته بشكل نزيه لإعادة بناء الشرعية والمؤسسات الجديدة؟ ثم ما هو دور الشخصيات الوطنية المستقلة التي قد يمكنها رأسمالها الرمزي، التاريخي والنضالي والسياسي والثقافي، من القيام بوظائف فاصلة في هذه المرحلة، إسوة بما قامت به شخصيات وطنية وازنة في مراحل انتقالية ناجحة في العالم، من قبيل اسبانيا وجنوب إفريقيا، والأرجنتين والتشيلي على سبيل المثال.

لاشك أن الجيش، الذي عاش لعقود متماهيا مع الدولة في الجزائر، ولم تضعف أدواره نسبيا إلا مع العشرية السوداء، ما زال يحتفظ بمكانته المحورية في هرم الدولة الجزائرية، على الرغم من عديد التغييرات التي طالت بنيته الداخلية وإلى حد ما عقيدته العسكرية، ولا شك أن الانحياز المطلق إلى مطالب الحراك، سيتطلب منه الكثير، وربما ستكون له كلفة من زاوية تضارب المصالح، ومع ذلك وفي النهاية سيكون لدوره كلمة الفصل في رسم مستقبل الجزائر وحراكه.. فهل سيذهب بعيدا في وطنيته والإبقاء على يده ممدودة إلى الحراك لإنجاح إعادة بناء أسس الجمهورية الجزائرية الثانية؟ 

التعليقات (0)