قضايا وآراء

أمريكا بعيون زائر من غزة (3)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في الغربة البعيدة تتغير الأبعاد والمسافات.. حين التقيت مع مجموعات من الفلسطينيين كانوا يتحدثون عن غزة ونابلس وعمَان كأنما هي ثلاث حارات متجاورة.. حين يطلقون وصف البلاد فهم ربما يقصدون التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية أو الضفة الشرقية أو في غزة أو حيفا. في أمريكا تأكدت قناعتي بمدى تعسف الحدود الفاصلة بين أوطاننا، وأن الحالة الطبيعية هي أن يكون الوطن العربي واحداً.

قمت برحلة بين نيومكسيكو ونيويورك استغرقت خمس ساعات من الطيران داخل حدود دولة واحدة، وهو ذات الوقت الكافي لتقطع فيه كثيرا من الدول العربية المتجاورة. مسار هبوط الطائرة في مطار عمان يبدأ قبل مدينة القدس.. حين تكون الطائرة في أجواء فلسطين يستولي عليك شعور حقيقي بأنك وصلت إلى مطار عمان. شكرا لاختراع الطائرة الذي بصّرنا بالمسافات الحقيقية، وحررنا من أوهام السيادة على فتات من الجغرافيا.

حين وصلت إلى العاصمة واشنطن (دي سي) بعد غروب الشمس، مرت سيارتنا بشارع هادئ الإضاءة، أشار صديقي ضرغام بأن البيت الأبيض يقع في ذلك الشارع القريب. لم نقترب تماما من البيت الأبيض، ولكني لم أتوقع أن تكون الدائرة القريبة من هذا الرمز السيادي المهم بهذه البساطة والهدوء.

في اليوم التالي، ذهبنا إلى مبنى الكونجرس، وهو أعلى مبنى في واشنطن العاصمة، في إشارة رمزية إلى أن صوت الشعب هو الصوت الأعلى، لذلك لا يسمح في العاصمة ببناء الأبراج وناطحات السحاب، على خلاف مدينة نيويورك.

في واجهة مبنى الكونجرس حركة اعتيادية للناس.. موظفون يسيرون باتجاه أماكن عملهم، وطلبة يسيرون باتجاه جامعاتهم، وحركة اعتيادية للسيارات.. لا توجد ثكنات عسكرية، ولا يوحي المشهد العام باستثنائية المكان.

كانت لنا لقاءات مع موظفي مكاتب بعض أعضاء الكونجرس من أصحاب المواقف الإيجابية تجاه فلسطين، وفق الجدول الذي أعدته لنا لجنة خدمة الأصدقاء الأمريكيين. بعد أن أنهينا لقاءاتنا توجهنا لتناول الطعام في المطعم بالطابق الأرضي، ونحن جلوس على المائدة أشار رفيق رحلتي، جهاد، إلى رجل كبير في السن يحمل طعامه بيد وأوراقه بيده الأخرى ويمشي ببطء باحثا عن مائدة فارغة: هذا الرجل هو عضو في مجلس الشيوخ! أين مرافقه؟ لماذا لا يحمل طعامه ويفسح له الطريق ويهيئ له مكانا للجلوس؟!

هنا يخدم كل إنسان نفسه بنفسه.. الثقافة الشائعة هنا أنك ما دمت تملك قدرة على خدمة نفسك ولست معوَّقا فلا تكن عالة على المجتمع أياً كان موقعك. سألت ساخرا: هل جاملته المحاسبة ورفضت أخذ ثمن وجبته؟ استحضرت في تلك الحالة مشهد المدير الذي إن ولي أمر عشرة أفراد انتفخ كبرياؤه واستعبد موظفيه، وطلب منهم معاملةً خاصةً بأن يحضروا له الطعام والشراب، وإن كان هذا خارج أوقات وظيفتهم، وأن يوصلوه بسيارة خاصة إلى بيته دون غيره من الموظفين، ولم يبال بقانون أو نظام، فشخصه فوق أي قانون. لا يمكن أن ترقى أمة وهي تتطوع بصناعة فراعنتها بأيديها.

لم أنس وأنا أشاهد صور البساطة والتواضع الشخصي في مراكز صنع القرار في أقوى دولة في العالم؛ أن هذه الدولة تقود مشروع هيمنة عالمية، لكن قوة أمريكا هي في قوة المؤسسة وليس في استبداد الأفراد. لا يوجد هنا زعيم خالد فرد أحد، ولكن توجد مؤسسة قوية؛ هي التي تهيمن وهي التي تقود وهي التي تستبد.

لا توجد ديمقراطية كاملة في أمريكا، بل توجد هيمنة للشركات الكبرى التي تلعب مصالحها دورا رئيسا في توجيه القرارات السياسية، والنظام الانتخابي ذاته يتضمن مواطن ضعف تمكّن أصحاب النفوذ من التلاعب فيه وفق مصالحهم.

في الانتخابات الأخيرة تفوقت هيلاري كلنتون على دونالد ترامب بملايين الأصوات، لكن كان هو الرئيس لأنه حصل على عدد أكبر من ممثلي الولايات.. ويمكن لأصحاب النفوذ في أمريكا تغيير حدود الدوائر الانتخابية بما يلائم تركيز الأماكن السكنية لمؤيديهم، وبهذه اللعبة يمكن لعضو كونجرس أن يحافظ على موقعه عشرين سنة، وأن يورثه لابنه من بعده. لكن هذه العلل القاتلة في النظام السياسي الأمريكي ليست مبررا لنا بطبيعة الحال أن نبرر واقع استبدادنا، فإصلاح أحوالنا هو مصلحة ذاتية لنا.

في المحيط الهادي مررنا بحاملة طائرات عملاقة على أهبة الاستعداد لأوقات الحروب، هذا هو وجه القوة الأمريكية الضاربة. تسعى أمريكا للمحافظة على قوتها العالمية بباقة من أدوات القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، وبصفتي إنسانا مؤمنا بقوة النضال السلمي، لم تبهرني عظمة التفوق العسكري، بل أراه امتدادا لعصر الديناصورات.

قلت لجهاد: هناك طريقتان لمواجهة القوة العسكرية؛ أن تنشئ قوة عسكرية مضادة للتغلب عليها، أو أن تعمل على تغيير الثقافة الإنسانية التي صنعت هذه القوة والتي تحتضنها. هل تستطيع الحكومة الأمريكية استعمال هذه القوة العسكرية في مواجهة مخالفي القانون في المجتمع الأمريكي؟

إن طبيعة المنظومة الاجتماعية الداخلية تفرض حدوداً لاستعمال القوة، وهذه هي فلسفة النضال السلمي.

إن القوة العسكرية لا تتحرك في فراغ بل تنمو في أجواء العنصرية والكراهية وهي تعبير عن شعور جماعي بالخوف وأنه لا توجد وسيلة لتحقيق الأمن إلا بسحق الآخر، لكن حين يتعزز تيار إنساني متجاوز للحدود السياسية والثقافية يؤمن بالمساواة وحقوق الإنسان لجميع البشر، وحين يقوى صوت الحوار بدل الصدام، فسيتحول هذا التيار إلى قوة اقتصادية وسياسية ضاغطة، وسترتبط مصالح الدول أكثر بمراعاة قيم حقوق الإنسان.

لذلك، فإن الأجدى هو أن تخوض معاركك من داخل المنظومة وليس من خارجها.
التعليقات (0)