قضايا وآراء

العقاد في ذكراه.. قوة وعمق وامتداد

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

في 13 آذار/ مارس (الأربعاء القادم)، تمر 55 عاما على رحيل أديب ومفكر العروبة والإسلام "عباس العقاد".. جاء وعبر وترك أضخم الأثر. وسواء كان هذا الأثر سيرة حياته نفسها ومواقفه وآراؤه وسائر أفعاله فيها، أو كان هذا الأثر ما تركه من فكر يسير مداده في العالمين (مؤلفات الأستاذ العقاد 160 كتابا وما يقرب من 15 ألف مقالة في المجالات كافة).

ودوائر الفكر والمعرفة تصنف العقاد أنه "كاتب إسلامي"، لكن بعض المتصلين بفكرة "الإحياء الإسلامي" من تيارات مختلفة لا يعتبرونه كذلك، بل ومرت من تحت أقلامهم انتقادات شديدة للمفكر الإسلامي الكبير، وإن بلغت هذه الانتقادات حد التطاول والاتهام.

 

دوائر الفكر والمعرفة تصنف العقاد أنه "كاتب إسلامي"، لكن بعض المتصلين بفكرة "الإحياء الإسلامي" من تيارات مختلفة لا يعتبرونه كذلك

كتب العقاد أربعين كتابا في كل مجالات الفكر الإسلامي، بين تراجم (العبقريات)، وفلسفة (الفلسفة القرآنية، التفكير فريضة إسلامية، الإنسان في القرآن الكريم)، ومقارنة ودفاع (الإسلام في القرن العشرين، ما يقال عن الإسلام، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه..). وخلص في كل ما كتب -مؤمنا ومصدقا- إلى أن النبوة في الإسلام كانت كمال النبوات وختام الرسالات، وأن مزية القرآن الأولى هي التنويه بالعقل، وأن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو "العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأشياء".

يقول الباحثون إن نظرية العقاد عن "الوجود الإرادي" أضافت إلى "العقل الإسلامي" إضافة نوعية عميقة الإيمان، والتي يرى فيها أن الوجود لا يمكن أن يكون إلا "إراديا"، وبالتالي فلا يمكن أن يكون "عبثيا". وتقوم النظرية على فكرة القصد وعدم عبثية الوجود، وتدعو إلى الثقة والإيمان الصلب بأن هذا الوجود يمضى على قصد إلهي ثابت، وهي النظرية التي تهدم كل نظريات الإلحاد والشك واليأس التي سيطرت على "العقل الغربي". وفيها يبث العقاد "(الموضوعية" في الوجود "المادي" وفي مظاهر الأشياء، مستلهما النص القرآني في ذلك استلهاما فريدا، ليصبح الإنسان أقرب إلى منابع الخير وأرحب شعورا بحقيقة إيمانه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏). وسيكون كتابه "الله" من أهم الكتب في دراسة العقيدة، وهي دراسة جمعت بين علم مقارنة الأديان وتاريخ المذاهب والأفكار والمعتقدات الإنسانية، مرورا بكل الأديان، حتى وصل الإنسان إلى الإسلام، حيث "نزاهة التوحيد".

 

نظرية العقاد عن "الوجود الإرادي" أضافت إلى "العقل الإسلامي" إضافة نوعية عميقة الإيمان، والتي يرى فيها أن الوجود لا يمكن أن يكون إلا "إراديا"، وبالتالي فلا يمكن أن يكون "عبثيا"

لم إذأ هذا الود المفقود (إذا جاز الوصف) بين بعض الإسلاميين والعقاد؟ بل وبين عدد كبير الرموز الفكرية الذين تحولوا إلى الكتابة عن الإسلام، عقيدة وفكرا؟ وهذه الرموز شكلت تيارا واسعا شمل عددا كبيرا من المفكرين الليبراليين أو المنتمين إلى الثقافة الغربية بشكل أو بآخر، مثل محمد حسين هيكل (مؤلف كتاب في منزل الوحي)، ومنصور فهمي، وزكي مبارك، وأحمد أمين، وعبد الرحمن بدوي، وخالد محمد خالد، وزكي نجيب محمود.. حين بدأ هذا التيار ينتشر بين المفكرين (كما ذكرنا)؛ لم يقف العقاد وقتها موقف الدفاع عن دراساته وكتاباته الإسلامية، وذلك حين هاجمه العلمانيون والليبراليون واليسار، فيقفز العملاق فوق رؤوسهم جميعا قائلا: "إن فرويد اليهودي حين كتب عن موسى ورينان المسيحي حين كتب عن المسيح لم يصفهما أحد بالرجعية والجمود، وحين كتبت عبقرية محمد ضاق بها من يضمرون للإسلام الكراهية باطنا، وحيث لا يجرؤون على إعلانها ظاهرا".

أحد الإسلاميين كتب عن "عبقريات" الأستاذ العقاد قائلا: "والحقيقة أن العقاد ما كتب عنهم كصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم أو ما كتب عنهم كنموذج عملي لهذا الدين، إنما كتب العقاد يؤرخ للعظمة والعظماء.. كتب يسند فعالهم لغير الدين، فهو لا يرى أثرا للعقيدة في حياتهم.. وأظن أن من قال هذه الكلام لم يمنح نفسه قدرا كافيا من التمهل والتثبت والفهم، وهو لا يختلف كثيرا عمن قال إن "العقاد اتجه إلى الكتابة في الإسلام بعد صراعاته السياسية، وبعد الحرب الشعواء التي شُنت عليه ووصفته بأنه كاتب غربي، واتهامه بأنه أنجب ابنة غير شرعية، وأنه عشيق لمي زيادة.. الخ. نقدهم بالطبع لا يرقى لجوهر ما كتب العقاد في كتاباته (بعمقها وسعتها وثراؤها)، بل يتجه الي نيته وبواعثه الخفية، والتي بالطبع هم على علم بها!!

 

نقدهم بالطبع لا يرقى لجوهر ما كتب العقاد في كتاباته (بعمقها وسعتها وثراؤها)، بل يتجه الي نيته وبواعثه الخفية، والتي بالطبع هم على علم بها


وأظن، وليس كل الظن إثم، أن عراب هذا الموقف (في ما أعلم) كان فضيلة الشيخ الراحل محمد الغزالي رحمه الله، حين تحدث قائلا: "أولئك الذين آمنوا بعقولهم ولم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم"!! فتصور البعض أنه إنما يقصد الأستاذ العقاد؛ لأحاديث تناقلها البعض عن أنه لم يكن يصلي! ولعل الشباب الصاعد الآن في المعرفة بالفكرة الإسلامية تتغير لديهم هذه الصورة، وأظنها كذلك.

دعونا نختم في هذه الذكرى العملاقة بموقف عملاق للعقاد.. "الشكر للدولة التي كرمتني فمنحتني جائزة الدولة التقديرية، والتفتت بذلك إلى واجب من واجباتها أغفلته زمنا طويلا". ويستطرد قائلا.. "إذ لا بد أن تكون جمهورية الفكر خير قرين لجمهورية الحكم..). قال العقاد هذه الجملة وهو يتسلم جائزة الدولة التقديرية من "الزعيم الخالد" عام 1959م، وتوجه بوجهة تجاه جمهور الحاضرين معطيا ظهره لـ"الزعيم الخالد"! والذي لم يفهم العبارة في ما يبدو، وحكوا وقتها أن غلمان الزعيم أرادوا أن يظهر العقاد منحنيا وهو يصافحه، فوضعوا أمام عبد الناصر منضدة عريضة بالشكل الذي يجعل العقاد ينحني عند مصافحته؛ لأن العقاد كان عملاقا في تكوينه الجسدي كما كان عملاقا بعبقرتيه الفكرية، ولم ينحن.

التعليقات (0)