هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بدأت الحكاية بتغريدة لمواطن فرنسي مسلم يسأل عن موعد تسويق لباس رياضي موجه للمحجبات الراغبات في ممارسة رياضة العدو بغطاء للرأس بديلا عن الحجاب العادي.
وهو منتج تسوقه شركة ديكاتلون الفرنسية بالمغرب. لم يتأخر الرد لكنه كان ردا أظهر من جديد مدى العداء المتمكن من "العلمانية" الفرنسية في مواجهة كل ما له صلة بالإسلام ومعتنقيه.
فرنسا التي كان من شعارات ثورتها أن "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين" مرعوبة من غطاء رأس رياضي، لا يختلف في شيء عن كثير من الأغطية المستعملة، لاتقاء برد الشتاء لمجرد تسميته "حجابا"، فالأولى موضة مسايرة للعصر والثاني حجر على المرأة وتشييء لها مناقض للقيم العلمانية للبلد.
كان الرد الذي أطلق شرارة الجدل مجددا عن "الوجود" الإسلامي بأرض فرنسا تغريدة، لم تصدر عن الشركة التي وُجه السؤال إليها، بل عن الناطقة باسم حزب "الجمهوريين" اليميني، الذي صار يقتات من فتات شعارات اليمين المتطرف طمعا في استمالة ناخبيه، واعتبرت فيها أن تسويق المنتج "المثير للجدل" دليل على "الخضوع للإسلاميين والتنكر لقيم البلاد".
لم يكن إعلان النصر، الذي تباهت به دول التحالف الدولي في مواجهة "تنظيم الدولة" بمعاقله بالعراق والشام، نهاية كابوس قض مضاجع الغربيين
انتهى الأمر بالشركة إلى إصدار بيان تتخلى بموجبه عن "نيتها" في تسويق "الحجاب الرياضي" على خلفية "موجة إهانات وتهديدات غير مسبوقة" ليس أقلها دعوة برلمانيين إلى مقاطعة منتجاتها.
لم تكن هذه "المعركة" إلا فصلا من فصول "حرب" أعلنتها فرنسا على مكونها المسلم تداخل فيها الأمني بالسياسي والاقتصادي.
وهي حرب مستمرة لا تضع أوزارها حتى تندلع شرارتها مجددا بما ينم عن فشل الدولة الفرنسية والطبقة السياسية من فرض منظورها لما تسميه "إسلاما فرنسيا خالصا" أغلقت بموجبه مساجد اعتبرتها سلفية خارجة عن سلطة الدولة، واعتقلت من رأتهم متدينين متطرفين ورحلت بعضهم خارج البلاد وكانت تفكر، بعد العمليات الإرهابية التي شهدتها باريس قبل سنوات، في إقرار قانون سحب الجنسية من كثيرين بعد فشل أجهزتها الأمنية في احتوائهم واستباق تحركاتهم.
ولم يكن إعلان النصر، الذي تباهت به دول التحالف الدولي في مواجهة "تنظيم الدولة" بمعاقله بالعراق والشام، نهاية كابوس قض مضاجع الغربيين، ومنهم فرنسا، بالنظر لما يمثله ذلك من إطلاق هجرة معاكسة للمنتسبين إلى التنظيم من جنسيات غربية إلى مواطنهم الأصلية في دول الغرب "الكافر".
"عروس داعش" و"فاتنة الموصل" و"الأرملة السوداء" وغيرها من الألقاب الصحفية، التي تحاول تجميل الوجه القبيح لتعامل السلطات الغربية مع مواطنيها المتهمين بالانتماء إلى "تنظيم الدولة" أو اعتناق أفكار متطرفة، تخفي أسماء مثل شميمة بيغوم ووليندا وينزل ومليكة العروض وأخريات كثيرات. بعضهن أعلنّ "التوبة" والندم وأخريات لا زلن على النهج الداعشي يسرن.
وفي الوقت الذي ترفض فيه الدول الأوروبية استقبال النساء وأبنائهن ومن ورائهن أزواجهن، فإن القضاء البلجيكي لم يتوان عن تجريد مليكة العروض من جنسيتها وترحيلها إلى المغرب، بلد المولد، وهي التي قضت عمرها كاملا في البلد منذ ستينيات القرن الماضي تزوجت خلاله عبد الستار دحمان، قاتل زعيم الحرب الأفغاني أحمد شاه مسعود في مهمة انتحارية، وبعده معز غرسلاوي، أحد أمراء تنظيم "القاعدة"، وتتهم بتجنيد أوروبيين للجهاد وعلى رأسهم مورييل ديغاوك التي تعرف بأنها أول انتحارية أوروبية نفذت عملية بالعراق في العام 2005.
"عروس داعش" و"فاتنة الموصل" فتاتان أوروبيتان فشلت دولتاهما عن حمايتهما من السقوط في شرك الدعاية "الجهادية" فالتحقتا بداعش وهما قاصرتان.
اليوم لا تجد حكومات بلديهما غضاضة في تحميلهما نتيجة فشل المنظومة الأمنية بهما ولو اقتضى الأمر الاستنجاد بتفعيل قوانين عمرها أكثر من ستة قرون تسهيلا لعمل الإدعاء العام في منع عودة "الجهاديين".
الاتفاق على استراتيجية أوروبية موحدة للتعامل مع ملف العائدين صار كابوسا يقض مضاجع الأمنيين قبل الساسة، وفي انتظار ذلك تحاول كل دولة تأمين وضعها الداخلي.
في فرنسا، التي سعت في عهد هولاند لإقرار قانون سحب الجنسية من المصنفين جهاديين وفشلت، انتقل الحديث من كون هؤلاء "أعداء لفرنسا" على لسان وزير الخارجية جان إيف لودريان، إلى أنهم "فرنسيون قبل أن يكونوا جهاديين" على لسان وزير الداخلية كريستوف كاستنر، وبعدها وزيرة العدل نيكول بيلوبيه التي رأت أن "التحكم في هؤلاء الجهاديين أمر مهم عبر إعادتهم إلى فرنسا"، وتكاد تنتهي بتصريحات أخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن فيها أن محاكمة مقاتلي "تنظيم الدولة" من الفرنسيين "يجب أن تتم في الدول التي يواجهون فيها اتهامات".
سبر للآراء أجراه معهد "أودوكسا" لفائدة جريدة "لوفيغارو"، الأسبوع الماضي، أظهر أن ثلثي الفرنسيين يؤيدون توجه الرئيس.
السكوت الغربي المخزي على مسلسل الإعدامات بمصر ما هو إلا تجل واضح لتطبيع هذه الدول العملي مع هذه العقوبة وإن تظاهرت في قوانينها وبعض من بياناتها المسيسة بالتنديد بها
السكوت الغربي المخزي على مسلسل الإعدامات بمصر ما هو إلا تجل واضح لتطبيع هذه الدول العملي مع هذه العقوبة وإن تظاهرت في قوانينها وبعض من بياناتها المسيسة بالتنديد بها.
لم تتمكن الدول الغربية، بعد أن دكت معاقل داعش بالطائرات والدبابات من القضاء على منتسبي التنظيم، وهي إن فشلت في ذلك "جرائم حرب"، فلا مانع من إحقاق نفس النتيجة بالتخلص منهم "قانونا" فذلك في العرف الغربي إنفاذ للعدالة لا جرائم حرب.
تعرف فرنسا وغيرها أن عودة مقاتلي "تنظيم الدولة" إلى بلدانهم الأصلية مكلف اقتصاديا وأمنيا وسياسيا.
ففي غياب أو صعوبة إثبات التهم على العائدين ومرونة العقوبات المقيدة للحرية سيسمح لهؤلاء بالانتشار في التراب الفرنسي، دون قدرة على التمييز بين التائبين الفعليين والمنتظرين لفرص تنفيذ العمليات، ومتابعتهم الأمنية مكلفة استخباريا ومستحيلة عمليا.
كما أن السماح بعودة هؤلاء مكلفة من الناحية السياسية، إذ تمنح أحزاب اليمين المتطرف الوقود الكافي للتدليل على فشل المنظومة الأمنية والسياسية للحكومات، ما يجعل مواجهتها إنتخابيا أمرا عسيرا.
لأجل ذلك، يحاول هؤلاء تحويل العراق وسوريا إلى مقبرة لـ "أبنائهم" الجانحين ولو كانوا أطفالا لم يبلغوا الحلم بعد. "أطفال الخلافة المؤدلجين" خطر مستقبلي على الأمن الأوروبي يقولون، وفي هذا إظهار لفشل ذريع ورعب سكن العقول.
رشيدة داتي، وهي وزيرة العدل الفرنسية السابقة في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، لخصت استراتيجية الغرب في تعامله مع أبنائه من الحاملين لفكر "تنظيم الدولة" حين صرحت في العام 2017 قائلة: "أعرف أن هذا غير مقبول سياسيا.
لكن على الدولة الفرنسية ليس فقط تسهيل مهمة من له رغبة في الالتحاق بالعراق وسوريا، بل العمل بكل ما تملكه من إمكانيات على منع عودتهم إلى فرنسا".
كانت رشيدة تحيل إلى استخدام الطائرات المسيرة في تنفيذ عمليات اغتيال خارج القانون، وحين يصدر هذا عن وزيرة سابقة للعدل فلا غرابة أن ينتشر الذعر في فرنسا في مواجهة "غطاء رأس رياضي".
انتهى الكلام....