هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شكّل انتصار قطر ببطولة كأس آسيا مفاجأة كبيرة على نحو لم يكن يتوقعه أحد في الخليج وفي المنطقة العربية خاصة بسبب الحصار الظالم المفروض على الدولة العربية الصغيرة.
لم تكن المفاجأة مقتصرة على الفوز الرياضي فحسب رغم أهميته بل إنها تجلت خاصة في السياق الإقليمي الذي جعل من المباراة حدثا يتجاوز بكثير تداعياته الإقليمية والعربية.
هكذا تبدو ردود الأفعال العربية وخاصة منها ردود الأفعال الشعبية المحتفلة بالانتصار القطري واحدة من أهم الأجوبة الشعبية على الدور القطري وعلى صورة الدولة العربية المستهدفة منذ أكثر من عقد تقريبا.
السياق المفتاح
لا يمكن في نظرنا فهم قيمة ورمزية الفوز القطري دون التمعن جيدا في السياق الإقليمي الذي دارت فيه وهو سياق لا يقتصر فحسب على ظروف المباراة والبطولة بل يتجاوزها إلى الصراع الإقليمي الدائر في منطقة الخليج بعد ثورات الربيع العربي وقبلها بكثير.
فعند وصول الشيخ حمد بن خليفة إلى سدة الحكم في الدولة الخليجية الصغيرة كانت قطر دولة لا يذكرها أحد تقريبا إذ كانت تعيش في ظل الهيمنة العربية لقوى خليجية أخرى وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وكان اقتصادها اقتصادا ضعيفا ولا حضور إقليمي لها.
لكن الدولة الصغيرة المدفوعة باكتشافات غازية هائلة في بحر الشمال وبرؤية إقليمية ودولية جديدة تحولت في ظرف وجيز جدا إلى نمر من النمور الاقتصادية الذي ما انفك دوره يتنامى كل يوم.
وهو ما يفسر كيف تحولت الدولة اليوم إلى فاعل رئيسي ومحوري في كل الملفات العربية والدولية بشكل لم يوفر عنها أشرس الحملات الإعلامية عربيا خاصة من قبل الدول المجاورة التي رأت في النجاح القطري تهديدا لهيمنتها على المنطقة.
ليست قصة الصعود القطري مرتبطة بالثورة فقط أو بعدد السكان الضعيف لأن دولا خليجية أخرى تحمل نفس الخصائص لكنها عجزت عن تحقيق ما حققه القطريون بل إن دولا عربية كبيرة لها من الثروة أضعاف أضعاف ما يملكه القطريون لم تنجح هي الأخرى في تحقيق المسار المتميز للتجربة القطرية.
كيف لدولة صغيرة في شبه جيب ترابي على منطقة قاحلة وبعدد سكان لا يتجاوز ثلاثمائة ألف نسمة أن تتحول إلى أسطورة نجاح عالمية ويصبح اسمها على كل لسان سواء من قبل الأعداء أو من قبل الأصدقاء ؟
ليست المسألة مرتبطة بالثروة إذن فالتجربة الإعلامية القطرية التي تعبر عنها قناة الجزيرة هي قصة النجاح الإعلامي الوحيدة في عالم عربي يعاني أشد أنواع البؤس الإعلامي والفقر التواصلي رغم كل القنوات التي تؤثث المشهد الحزين اليوم.
لم تنجح دول عربية غنية في بلوغ النجاح الذي بلغته الجزيرة رغم كل الأموال والميزانيات التي رصدت لها وهو ما يحيلنا على عنصر أهم في التجربة العربية الناجحة وهو عنصر الرؤية.
الرؤية القطرية
الرؤية أو المشروع يمثلان في الوقت نفسه سر نجاح المنوال القطري وكذلك سبب العداوة الشديدة التي سببها للدولة خاصة على المستوى الإقليمي. تمثلت الرؤية القطرية في محاولة المسؤولين القطرين تغيير الاتجاه السياسي والإعلامي السائد في منتصف التسعينات وهو سياق تميز بمناخ من اليأس والإحباط الجمعي الذي سببته الحرب الأمريكية على العراق وهزيمة العرب أمام الغزو الدولي للدولة العربية الأهم مشرقيا.
التعاطف العربي الشعبي مع هذا الانتصار هو الوحيد الذي يترجم الإجابة العربية عما تتعرض له قطر خاصة منذ الحصار الدائر من ممارسات هي أقرب إلى إرهاب الدولة منها إلى العلاقات العربية السوية.
تميز السياق العام أيضا بتصلب المحاور العربية التي عجزت عن منع غزو وتدمير بلد عربي بل شاركت في الغزو وباركته سواء محور الاعتدال الذي يضم كل دول الخليج تقريبا أو محور الممانعة الذي شارك في تدمير بلد عربي شقيق.
اختارت قطر وجهة جديدة تتأسس على الوعي بأن المنطقة العربية لا يمكنها أن تتقدم وأن تخرج من دوائر التهديد المحيطة بها دون القطع مع السائد من الخيارات السياسية التي لم تورّث غير الهزائم والانكسارات.
كما عملت الدوحة على تفعيل المنوالات التواصلية والثقافية والإعلامية بشكل يوفر للدولة مساحات كافية للعمل والفعل والتأثير وهو خيار جعل من قناة الجزيرة مثلا خلال الغزو الأمريكي الثاني للعراق خلال 2003 أهم القنوات العالمية على الإطلاق والمصدر الأساسي للخبر والمعلومة عربيا ودوليا.
لكن من جهة أخرى حافظت الدولة على التزاماتها الاقليمية والدولية ونشطت خاصة في مجال الوساطات في الصراعات القائمة بالمنطقة وجوارها الإقليمي ونجحت بشكل كبير في حلّ الكثير من الأزمات عبر جمع أطراف النزاع حول طاولة الحوار.
أما على الصعيد الدولي فإن خطورة النزاعات المحيطة بها والتهديدات المباشرة التي يتعرض لها نظامها منذ المحاولات الانقلابية الأولى خلال التسعينات هي التي دفعتها إلى الشراكة العسكرية مع القوى العالمية والذي يبرز جليا في قاعدة العديد العسكرية التي شكلت في الحقيقة جوابا مباشرا للأطماع الخارجية والتهديدات الإقليمية.
النجاح وثمن النجاح
لا يمكن لأي قراءة موضوعية محايدة اليوم أن تنكر نجاح التجربة القطرية التي لم يكن ثمنها يسيرا وليس الحصار المفروض على الدولة العربية الصغيرة وما تتعرض له من حملات إعلامية لا تتوقف إلا جزءا يسيرا من الثمن الذي كان على الدوحة أن تدفعه بسبب خياراتها السيادية.
موجة التعاطف هذه تكشف بجلاء فشل كل المخططات الرامية إلى عزل قطر عن الحاضنة الشعبية العربية بسبب التشبث القطري الكبير بشروط السيادة ومبادئها رغم مرارة الحصار وشراسته
لقد رفضت قطر كل محاولات جيرانها انتزاع سيادتها وإجبارها على الاصطفاف ضمن الخط الرسمي المراد للدول الصغيرة والمرسوم لكيانات العربية الهزيلة التي تؤثث المشهد البائس اليوم.
لقد كان لثورات الشعوب الأخيرة دورا حاسما في صعود النجم القطري وفي تبيان صحة الرؤية المؤسِّسة التي دعمت حق الشعوب في التعبير ونقلت ثوراتها عندما كان الإعلام الرسمي العربي يسعى إلى شيطنتها بكل الوسائل والأدوات.
لكن هذا الدعم الذي تأسس على الاعتراف الصريح بحق شعوب المنطقة في تقرير مصيرها وفي ضرورة القطع مع التجارب الاستبدادية العربية بشكل أو بآخر لم يكن ليوفر على الدولة كل الحملات الشرسة التي لا تزال تتردد في المنطقة وجوارها من محاولات ربطها بالإرهاب تارة وتهديد سلامة المنطقة تارة أخرى.
ليس الفوز القطري بالبطولة الآسيوية لكرة القدم إلا جزءا من الحصاد الذي تحصده الرؤية المؤسسة في المجال الرياضي وهو المجال الذي راهنت عليه الدولة لأهميته التواصلية ولقدرته على إبراز قدرتها على العمل والتنظيم.
لكن التعاطف العربي الشعبي مع هذا الانتصار هو الوحيد الذي يترجم الإجابة العربية عما تتعرض له قطر خاصة منذ الحصار الدائر من ممارسات هي أقرب إلى إرهاب الدولة منها إلى العلاقات العربية السوية.
إن موجة التعاطف هذه تكشف بجلاء فشل كل المخططات الرامية إلى عزل قطر عن الحاضنة الشعبية العربية بسبب التشبث القطري الكبير بشروط السيادة ومبادئها رغم مرارة الحصار وشراسته.
إن الحملات الإعلامية التي تعرضت لها الدوحة منذ أكثر من عقد من الزمان ليست بالهينة بل إنها استفادت من موجة الثورات المضادة وعودة المنظومات الاستبدادية العربية إلى السلطة خاصة بعد الانقلاب المصري الدموي وصدقها كثير من العرب.
لكن انكشاف المنظومات الخليجية خاصة خلال السنوات الأخيرة وثبات الموقف القطري هو الذي بات يشكل اليوم نقلة جديدة في وعي الشعوب والجماهير حيال الدور القطري المناصر للشعوب وقضاياها والذي لا يمكنه إلا أن ينتصر في النهاية.