أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام سحب القوات الأمريكية من سوريا. وقال في حسابه بموقع تويتر، إن الوقت قد حان لعودة الجنود الأمريكيين من سوريا إلى بلادهم. ورحب، الاثنين، في تصريحاته باستعداد تركيا للقضاء على ما تبقى من عناصر تنظيم داعش الإرهابي، قائلا إن نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، "رجل قادر على القيام بذلك".
هذه التصريحات أثارت علامات استفهام حول تعاون واشنطن مع وحدات حماية الشعب الكردي، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وكذلك حول العملية العسكرية المرتقبة التي يستعد الجيش التركي لإطلاقها في مناطق شرقي الفرات بالتنسيق والتعاون مع فصائل الجيش السوري الحر لتطهيرها من عناصر المنظمة الإرهابية.
المسؤولون الأتراك باحت أصواتهم وهم يحاولون أن يقنعوا نظراءهم الأمريكيين بخطورة التعاون مع منظمة إرهابية لمحاربة منظمة إرهابية أخرى، إلا أن الإدارة الأمريكية السابقة تجاهلت كافة تلك التحذيرات، واختارت دعم وحدات حماية الشعب الكردي، بدلا من التعاون مع حليفها في الناتو في مكافحة الإرهاب. وكانت أنقرة تأمل في تصحيح الإدارة الأمريكية الجديدة هذا الخطأ، إلا أن الرئيس الجديد خيَّب آمال القيادة التركية، وواصلت الولايات المتحدة دعمها للمنظمة الإرهابية حتى تصريحات ترامب الأخيرة. وبالتالي، يمكن اعتبار انسحاب القوات الأمريكية من سوريا وتصريحات الرئيس الأمريكي حول تركيا ورئيسها "تراجعا عن الخطأ ولو متأخرا".
قرار الرئيس الأمريكي بشأن الانسحاب من سوريا يتوافق مع رأيه الشخصي، كما يتناسب مع عقلية رجل الأعمال التي تسيطر على شخصيته. ويعرف ترامب أن التنسيق مع تركيا في مكافحة الإرهاب لن يكلف الولايات المتحدة عبء الدعم اللوجستي وإرسال الضباط للتدريب وتوفير الحماية للقوات التركية، لأن الأخيرة ليست بحاجة إلى ذلك، بخلاف التعاون مع المنظمة الإرهابية التي لا تستطيع أن تتحرك في غياب الدعم الأمريكي السخي.
ومما لا شك فيه أن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا سيدفع أطرافا عديدة إلى مراجعة حساباتها وإعادة ترتيب أوراقها وأولوياتها. وتأتي وحدات حماية الشعب الكردي على رأس تلك الأطراف. ويشعر قادة المنظمة الإرهابية بأن الولايات المتحدة "باعتهم" و"طعنتهم في الظهر". ومن المؤكد أن تطرق وحدات حماية الشعب الكردي جميع الأبواب للبحث عن حماية جديدة، سواء في الدول الأوروبية أو الإقليمية، وأن تستنجد بروسيا وإيران والنظام السوري.
هناك تنسيق ثلاثي في الملف السوري بين تركيا وروسيا وإيران. ونجح هذا التنسيق حتى الآن في تجاوز كثير من العقبات. وكانت روسيا سبق أن حذرت الولايات المتحدة من اللعب بالورقة الكردية "الخطيرة" في الضفة الغربية لنهر الفرات. ومن غير المتوقع أن تضحي موسكو علاقاتها مع أنقرة وما تم بناؤه حتى الآن في قمم أستانا وطهران وسوتشي وإسطنبول من أجل حماية المنظمة الإرهابية التي تخلت عنها الولايات المتحدة.
العلاقات التركية الإيرانية هي الأخرى لا تسمح لطهران بتوفير الحماية للمنظمة الإرهابية في سوريا. وأعلن الرئيس التركي قبل أيام وقوف تركيا إلى جانب الشعب الإيراني ضد العقوبات التي وصفها بــ"غير الصائبة"، مشيرا إلى أنها تتعارض مع القانون الدولي وتؤدي إلى معاقبة الشعب الإيراني. وكانت تركيا والبرازيل سبق أن دعمتا طهران في قضية ملفها النووي، إلا أن الملالي سرعان ما نسوا ذاك الموقف الإنساني في خضم نشوة الانتصار حين توصلوا إلى اتفاق مع إدارة أوباما. وقد ترغب طهران في تجاهل وقوف تركيا إلى جانب الشعب الإيراني، إلا أن الظروف الراهنة هذه المرة لا تسمح لها بذلك، في ظل إصرار تركيا على تطهير الشمال السوري من عناصر المنظمة الإرهابية التي تهدد أمنها القومي.
قرار انسحاب القوات الأمريكية دفع كلا من وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، والمبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، بريت ماكغورك، إلى الاستقالة. وكان هذا الأخير أكبر داعم لوحدات حماية الشعب الكردي في سوريا. ولذلك رحَّب الأتراك باستقالته وتمنوا له الرحيل من سوريا دون رجعة.
الضوء الأخضر الذي منحه ترامب لتركيا في مكافحة الإرهاب في سوريا سيسهل مهمة الجيش التركي وفصائل الجيش السوري الحر. وأما وصف انسحاب القوات الأمريكية بــ"الفخ لتركيا"، فبعيد للغاية عن الواقعية، لأن أنقرة هي التي طلبت من واشنطن بإلحاح أن تتعاون معها في سوريا، بدلا من وحدات حماية الشعب الكردي، وهي التي أعلنت استعدادها لمحاربة التنظيمات الإرهابية واستتباب الأمن بالتعاون والتنسيق مع فصائل الجيش السوري الحر.