هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كم هي مضحكة وكوميدية ومضللة الهجمة الإعلامية والسياسية على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأنه ضرب عرض الحائط بتقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية، التي خلصت إلى أن المسؤول الأول عن اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي بطريقة أبشع من الطريقة الداعشية هو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
يا جماعة الخير،
لماذا تصورون الإدارة الأمريكية كما لو أنها كفرت برب العالمين لمجرد أنها باعت دم
خاشقجي مقابل تخفيض أسعار النفط أو صفقات مليارية مع السعودية؟ لماذا تلومون وزير
الخارجية الأمريكي عندما يقول إن المصالح العليا الأمريكية أولا وأخيرا؟ لماذا
تهاجمون الرئيس الأمريكي عندما يغرد قائلا: «أمريكا أولا»؟
ما
أنفق وما أسخف الذين يحاولون تصوير أمريكا على أنها بلد المبادئ والأخلاق، وأن
الرئيس ترامب شوه سمعتها في العالم عندما رفض اتهام ولي العهد السعودي محمد بن
سلمان بإعطاء الأوامر لاغتيال خاشقجي؟ هل نحن فعلا نواجه صراعا حقيقيا داخل أمريكا
بين الإدارة الأمريكية التي تمارس السياسة الواقعية real politics وبين بعض أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ ووسائل الإعلام الأمريكية،
وعلى رأسها صحيفة واشنطن بوست ونيويورك تايمز، اللتان تتزعمان الحملة للاقتصاص من
قتلة خاشقجي، ومعاقبة المسؤولين السعوديين على فعلتهم الشنيعة؟ هل فعلا هناك نوازع
أخلاقية عظيمة لدى المؤسسات الأمريكية السياسية والإعلامية التي ترفض موقف الرئيس
الأمريكي من ولي العهد السعودي، وتتهمه بالعمل لدى المملكة كمدير علاقات عامة
لتبرئة ساحتها وتلميع صورتها التي تشوهت عالميا بعد اعترافها باغتيال خاشقجي
وتقطيع جثته وربما إذابة جثته بالأسيد؟
أخشى أن تكون الحملة المضادة لترامب في أمريكا بخصوص موقفه النفعي من
قضية خاشقجي مجرد ضحك على الذقون لإيهام العالم بأن أمريكا أم الأخلاق، وأنها لا
ترضى عما تفعله الإدارة. بصراحة لا يمكن لذي عقل أن يصدق مطلقا هذه الهيصة
الأمريكية المناهضة لدونالد ترامب. ولا شك أن كثيرين يعتبرونها لعبة توزيع أدوار
بين الإدارة من جهة وبين المؤسسات الإعلامية وبعض المؤسسات السياسية من جهة أخرى.
الإدارة تمارس السياسة النفعية المفضوحة، والإعلام يهاجمها لذر الرماد في العيون.
لا
شك أننا نرفع القبعة لصحيفة واشنطن بوست التي تتحدى البيت الأبيض، وتتبنى قضية
جمال خاشقجي من منطلق أخلاقي وإنساني… رائع، لكن أين أخلاقيات هذه الصحيفة وغيرها
من الصحف الأمريكية من قضايا ملايين العرب في سوريا واليمن والعراق وليبيا الذين
ماتوا أو تشردوا أو يتعرضون للتعذيب المنظم؟
الأخلاق والمبادئ لا تتجزأ. هل ننسى أن كبريات الصحف الأمريكية هي من
قادت الحرب على العراق وغزوه وإعادته إلى العصر الحجري؟ لقد كانت بعض الصحف تنشر
الأخبار والمقابلات الداعية إلى غزو العراق على صفحاتها الأولى، ثم تنشر آراء
المعارضين للحرب في الصفحات الداخلية التي لا يراها أحد، حسب الناشطة الأمريكية
الشهيرة إيمي غودمان. ثم لماذا تنبري بعض الصحف للدفاع ليل نهار عن قضية صحافي
واحد، بينما تتجاهل محنة ملايين المعذبين والمشردين واللاجئين العرب؟ لو أفردت هذه
الصحف خمسة بالمائة من موادها للدفاع عن خاشقجي لمهاجمة الطواغيت العرب كبشار
الأسد وغيره على ما فعله بسوريا والسوريين، لكانت قد خلقت رأيا عاما أمريكيا ضاغطا
على الإدارة لمعاقبة ذلك المجرم التاريخي الذي قتل أكثر من مليون سوري واعتقل وشرد
الملايين ودمر ثلاثة أرباع البلد.
والسؤال
الأهم: متى اتبعت أمريكا سياسة أخلاقية في تاريخها؟ ألم تقم أصلا على جماجم أكثر
من مئة مليون هندي أحمر قتلتهم وهجرتهم واحتلت وطنهم؟ أليست صاحبة أطول سجل
للعدوان على الدول الأخرى؟ فلماذا تلومونها الآن على التضحية بدم صحافي، وتنسون
أنها باعت شعوبا وبلادا من قبل من أجل مصالحها القذرة؟
ألا يتعامل الإعلام الأمريكي المملوك أصلا للشركات التي تدير أمريكا
بمبدأ: «قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر»؟ هل يمكن
أن تقبل الشركات الكبرى التي تملك الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية الأخرى أن تخسر
أمريكا صفقاتها المليارية مع السعودية وغيرها من أجل تحقيق العدالة لصحافي أو
كاتب؟ دعكم من هذا النفاق. أليست الشركات التي تسيطر على الإعلام الأمريكي هي جزء
لا يتجزأ من الطبقة الأمريكية الحاكمة؟
وكي
لا نلوم أمريكا وحدها على سياستها النفعية، هل هناك دولة في العالم مستعدة أن تضحي
بمصالحها الحيوية والاستراتيجية من أجل شخص أو حتى من أجل شعوب؟ حتى الأفراد
أنفسهم ينسون قتلاهم وشهداءهم بسهولة مقابل دية بسيطة أو مصالحة تحفظ لهم ماء
وجوههم، فما بالك الدول.
لاحظوا الآن كيف تتقارب الدول من النظام السوري بعد أن شاركت في
تدمير بلده ونظامه، وكيف يتقرب النظام من الدول ذاتها التي لعنت سنسفيل نظامه على
مدى سنوات. ليس هناك أخلاق في السياسة، بل هناك مصالح فقط. ومن يطلب الأخلاق في
السياسة كمن يطلب الدبس من ذنب النمس. وسلامتكم.
عن صحيفة القدس العربي