هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لدى قراءتي للصحف المصرية استوقفني ما أوردته إحداها من تصريح رئيس البعثة المصرية في الأمم المتحدة، رداً على المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه، في أعمال الدورة التاسعة والثلاثين للمجلس الدولي لحقوق الإنسان، في شأن الأحكام الصادرة عن محكمة جنايات القاهرة في قضية “فض رابعة”.
وكما لنا أن نتخيل فقد اتهمها بالتحيز وعدم استقصاء المعلومات، إلى آخر ما عهدناه في جعبة أنظمتنا البائسة ومتحدثيها الأكثر بؤساً من دفع التهم وردها صوب الدول الغربية، كما فعل صاحبنا، إذ ذكر المفوضة معيراً بما يتعرض له اللاجئون من انتهاكاتٍ في الدول الأوروبية.
بطبيعة الحال وانطلاقاً من انحيازاتي الاجتماعية والفكرية، فلست بصدد الدفاع عن تلك الانتهاكات، التي تتم في ظل صعود موجةٍ شعبويةٍ تلقي باللائمة على كل مآزقها الاجتماعية، وأزماتها الاقتصادية على عاتق المهاجرين، إلا أنني كنت أود أن يكون أداء ممثل النظام المصري (على اختلافي ومعارضتي له) أفضل من ذلك. كان من الأجدر والأفضل أن يفند هو والنظام الذي يمثله، ذلك، إلا أنهما بطبيعة الحال لم يفعلا، بل اكتفيا كما هي العادة دائماً في المحافل الدولية باتهاماتٍ بالتحيز والكيل بمكيالين داعيين الدول الغربية للنظر في باحاتها الخلفية، وإطلاق التهم بالمؤامرات الكونية في مصارفنا الإعلامية.
هو ذاته دائماً، التبادل والتراشق والعنجهية. يقيناً أن الغرب مأزومٌ، بل يعيش أحد أعنف أزماته الوجودية، جراء تناقض الرأسمالية فيه، وما أدت إليه محاولات الخروج من تلك الأزمة وترحيلها وتصديرها، من صعود لاعبين كبار كالصين والهند، إلا أن ذلك لا ينفي أن المجتمع الغربي تحرك أماماً وقطع أشواطاً بعيدة في الحريات العامة، وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية والضمانات الاجتماعية مقارنةً ببلداننا، وللأمانة فالمقارنة مجحفة ولا محل لها، وعوضاً عن الردح، كان يتعين علينا، وعلى حكوماتنا بوجهٍ أخص أن تسأل: أين نحن وماذا أنجزنا؟ إلا أن ذلك لن يحدث نتيجة الصفة الرئيسية التي تميز أنظمتنا: الصفاقة.
أاجل، فنظمتنا فشلت في كل شيء، إلا أنها تمتلك ذلك القدر المذهل من الصفاقة كي تتبجح وتبرر استمرارها؛ فوفقاً لبعض التقديرات زج النظام المصري بقرابة خمسة عشر ألف سجينٍ في المعتقلات، في الفترة الممتدة من أكتوبر/تشرين الأول 2014 إلى سبتمبر/أيلول 2017، ناهيك عن المختفين قسرياً، ومن تتم تصفيتهم جسدياً بحجة الإرهاب والانتماء لجماعةٍ محظورة، ولاحق وحاصر المجال العام ومحاولات التنظيم السياسي، ثم يتحدث عن حقوق الإنسان والشفافية. يبدد عشرات المليارات على مشاريع إما عديمة الجدوى أو مشكوكٍ فيها، يفقر عشرات الملايين بتعويم الجنيه ثم يتحدث عن الإصلاح والتعافي الاقتصادي. يحرز قاع المراكز في التعليم ويتحدث عن البحث العلمي. أي كلمةٍ تصف هذا سوى الصفاقة؟ تلك النظرة الجارحة والثقة على خلفية كل ذلك الفشل، وكل تلك الدماء المستترة بشحنات الوطنية والاستناد إلى مشاعر همجية وغوغائية وبدائية كالعداء للآخر؟
قبل الثورة كتبت مقالاً ذهبت فيه إلى أن سمة النظام والزمن آنذاك كانت البلادة، بلادةٌ إزاء الفقر والأرواح التي يودي بها الفشل وانعدام الكفاءة فتذهب رخيصة.. كان النظام بليداً فصار صفيقاً.
والشاهد أن المد الثوري انحسر، وتعهد النظام الناشطين والقوى المتقدمة الحية بالملاحقة والتنكيل، وحاصر الناس بالخوف والجوع، ما أتاح له أن يبرز وجهه الأكثر صفاقةً ويتمادى في ألعابٍ كلامية لا نهاية لها ولا يراها تكلفه شيئاً. بالإضافة إلى ذلك فهو يوسع دائرة العادي لتشمل الاختفاء القسري والسجن من دون محاكمة والتصفيات الجسدية وخنق المجال العام، بحيث تصير كل نفحة حريةٍ هبة.
ما لم يظهر تنظيمٌ ثوري حقيقي قادرٌ على تحريك الناس فسيتمادى النظام في صفاقته؛ سيتوحش الناس ويستمر الفشل ويتبدد السجال والصراع في ملاسناتٍ لا تؤدي إلى نتيجة، وفي النهاية لن يتبقى شيء.
عن صحيفة القدس العربي