إذا كان مسار
"أستانا" قد حظي بدعم أمريكي وأوروبي وأممي لوضع حد للفوضى العسكرية
التي عمت الجغرافيا السورية، فإن التحرك الدبلوماسي الروسي المكثف على المستويين
الإقليمي والدولي حيال اللاجئين لا يبدو أنه يحظى بدعم هذه الأطراف.
ليس الهدف الروسي إيجاد
حل للمسألة الإنسانية في سوريا، لأن حل هذه الأزمة مرتبط بإنهاء الأسباب العميقة
والمباشرة التي دفعت السوريين للهروب من سطوة النظام، وهي النقطة الجوهرية التي
أكدت عليها الفقرة 14 من القرار الدولي 2254 "يؤكد مجلس الأمن الحاجة الماسة
إلى تهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليا إلى
مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضررة، وفقا للقانون الدولي، بما في ذلك
الأحكام الواجبة التطبيق من الاتفاقية والبروتوكول المتعلقين بمركز اللاجئين".
يعمل صناع القرار في
الكرملين على تزييف رواية اللاجئين وتمرير خطاب سياسي يُحمل المعارضة لا النظام
مسؤولية هروب السوريين إلى الخارج، وإلا كيف يمكن فهم مطالبة روسيا المعارضة
السورية تقديم ضمانات بعدم تهديد حياة اللاجئين العائدين.
إن تجاهل موسكو للأسباب
الحقيقية لأزمة اللجوء يؤكد أنها تعمل على تسيس هذا الملف وجعله بوابة إنسانية
لإعادة شرعنة النظام على المستويين الإقليمي والدولي، مستغلة الظروف الصعبة التي
تعاني منها بعض البلدان جراء الحضور الكبير للاجئين فيها.
المقاربة الروسية تقوم
على التالي: مع اقتراب العمليات العسكرية الكبرى من الانتهاء ـ باستثناء شمال شرق سوريا الذي ينتهي مصيره بالتسويات الدولية لا بالمعارك ـ ومع عودة جزء كبير
من اللاجئين وفق التوقعات الروسية، تكون سوريا قد انهت أخطر ملفين في الأزمة لما
لهما من تداعيات وانعكاسات خارجية إقليميا ودوليا.
بعبارة أخرى، إن إنهاء
الملف العسكري يعني إنهاء تأجيج وتوليد ظاهرة الإرهاب، وتخفيف حالة التوتر في
البلدان المجاورة لسورية، كما أن إنهاء ملف اللاجئين وإن جزئيا يعني بداية النهاية
للمعاناة الإنسانية وتخفيف الضغط على الدول المستضيفة سواء الإقليمية أو الدولية.
وفي هذه الحالة سيبقى
الملف السياسي، وهو ملف داخلي من الناحية العملية لا من الناحية النظرية
القانونية، أي يمكن حله تدريجيا وعلى مراحل زمنية طويلة طالما لا توجد له تداعيات
خارجية كما هو حال الملفين العسكري والإنساني.
المشكلة الرئيسية تكمن في
أن موسكو لا تزال تنظر إلى الأزمة السورية من منظار ما تحت سياسي، أي أن مشكلة
الأزمة السورية لا تكمن في المستوى السياسي وضرورة قيام نظام ديمقراطي، وإنما تنظر
للأزمة السورية من منظار العلاقات الدولية ومكامن القوة الكامنة فيها، وهذا ما
يجعلها تنظر إلى ملف اللاجئين من هذا المنظار، وما قد يعنيه من تبدل في مواقف
الدول إذا ما شعرت أن مصلحتها تكمن في ذلك.
لكن روسيا بالمقابل تدرك
صعوبة تحقيق اختراق ما في ملف اللاجئين على الأقل في هذه المرحلة، ولذلك تعمل على
فك الارتباط الحاصل بين الملفين الإنساني والسياسي، وربط قضية اللاجئين بالبعد
الاقتصادي، أي بملف إعادة الإعمار.
ومن هنا ركزت روسيا
حراكها الدبلوماسي على ألمانيا ولبنان، باعتبارهما الحلقتين الأضعف: ألمانيا تحوي
العدد الأكبر من اللاجئين السوريين في أوروبا مع السويد، وميركل تتعرض لضغوط كبيرة
من الأحزاب اليمينية بسبب سياستها حيال اللاجئين، أما لبنان فهو مستعجل جدا لإعادة
اللاجئين لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية، وكلام وزير الخارجية جبران باسيل واضح
"لا يوجد سبب لبقاء اللاجئين في لبنان".
وإذا كان لبنان مع
"حزب الله" يدعم المبادرة الروسية، فإن ألمانيا بدت متحفظة وغير راغبة
في الانسياق وراء الخطوة الروسية.
صحيح أن تصريحات ميركل
خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعها مع بوتن لم تكن حادة حيال هذا الموضوع، واكتفت
بمطالبة موسكو عدم مصادرة حق اللاجئين، إلا أن المتحدث باسم الحكومة الألمانية
شتفن زايبرت أعلن في اليوم التالي أنه "يجب السعي أولا للتوصل لاتفاق سلام
سياسي في البداية.. وليس منطقياً الآن بالنسبة للحكومة الألمانية أن تنشغل بمسألة
إعادة الإعمار التي ستكون ضرورية بعد ذلك".
وعلى الصعيد التركي، لا
تبدو روسيا قادرة على اختراق الموقف السياسي لأنقرة من مسألة اللاجئين، لأسباب
متعلقة بالوضع السوري ولأسباب متعلقة بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي.
أما على الصعيد الدولي،
فقد بدت المواقف الأمريكية والأوروبية وموقف الأمم المتحدة حادة وحازمة، فخلال
المؤتمر الصحفي الذي جمع بومبيو ودي ميستورا، ربط الطرفان أي حديث عن إعادة
الإعمار وعودة اللاجئين في سوريا بالتوصل إلى حل سياسي، كما أعلن الاتحاد الأوروبي
أن "سوريا لا تزال تعاني من ويلات الحرب وليست آمنة لعودة اللاجئين
إليها" في رد واضح على الخطة الروسية.