منذ انطلاق مسار استانا مطلع العام الماضي، نجحت روسيا في إدارة التناقضات المحلية والإقليمية للأزمة السورية، فكانت وما زالت بمثابة المايسترو القادر على ضبط إيقاع ألحان القوى المحلية والإقليمية.
هكذا نجحت روسيا في تعزيز تحالفها العسكري مع إيران على الأرض السورية، في وقت وضعت حدودا وضوابط للانتشار الإيراني.
وهكذا دافت روسيا عن الوجود الإيراني في سوريا، في وقت أبعدتها نهائيا عن الملف السياسي الذي بقي أسيرا لموسكو.
وهكذا نجحت أيضا في إدارة الأزمة الإسرائيلية ـ الإيرانية، ففيما تركت موسكو للطرفين حرية التصرف ضمن نطاق مصالحهما الاستراتيجية، استطاعت بالمقابل في كثير من المحطات ضبط اندفاعة الطرفين.
وجدت إسرائيل في روسيا اللاعب الوحيد القادر على إقامة التوازن المطلوب، على عكس الولايات المتحدة التي قد يؤدي تدخلها إلى تأجيج الوضع.
بالنسبة لإسرائيل، التفاهم مع روسيا يحول دون انزلاق الأمور نحو حرب مفتوحة ومتعددة الجبهات، في وقت يسمح التفاهم معها بمنح إسرائيل حرية التصرف العسكري عند الضرورة.
هكذا نشأت علاقة تفاهم بين روسيا وإسرائيل، الأولى تتفهم المخاوف الإسرائيلية وتمنحها غطاء شرعيا لذلك، والثانية تتفهم الرؤية الروسية حيال التواجد الإيراني في سوريا، وضرورة التعامل مع هذا الوجود عبر اتباع سياسة الخطوة خطوة، على اعتبار أن التطورات التي ستنتج عن توقف المعارك العسكرية الكبرى ستفرض واقعا جديدا يحتم بالضرورة تخفيف التواجد العسكري الإيراني في سوريا.
ومقارنة تصريحات نتنياهو قبيل وصوله إلى موسكو وتصريحاته بعيد مغادرتها، تؤكد التفهم الإسرائيلي للرؤية الروسية في سوريا، فقبيل وصوله إلى موسكو أعلن نتنياهو ضرورة خروج إيران بشكل كامل من سوريا، وبعد عودته من موسكو أعلن أهمية انسحاب إيران من الجنوب السوري.
وقبل ذلك، نجحت روسيا في جذب تركيا تجاهها عبر التضحية بالتفاهمات القائمة مع أكراد سوريا، إدراكا منها لأهمية الجغرافية السياسية التي تفرض منطقها بقوة، وهي رؤية سياسية كانت روسيا سباقة فيها مقارنة مع الولايات المتحدة التي بدأت مؤخرا إدراك ضرورة الانفتاح على أنقرة لضمان أية ترتيبات مستقبلية.
التفاهمات مع أنقرة سمحت لموسكو بإعادة ترتيب كثير من الأوراق، وهذا أمر تطلب إدارة فعالة للأزمة بين أنقرة من جهة، وطهران ودمشق من جهة ثانية.
لعبت موسكو على وتر استراتيجي حساس في المنطقة، مع ما يتطلبه ذلك من موازنات دقيقة وعلاقات مع كافة الأطراف المتناقضة، لكن إدارة الأزمة شيء وحل الأزمة شيء آخر تماما.
استطاعت روسيا الضغط على الأطراف الإقليمية لتحصيل بعض التنازلات منها، مقابل منحهم امتيازات في مكان آخر، واستطاعت أيضا تأجيل كثير من المعارك بين بعض الأطراف الإقليمية داخل سوريا.
لكن ما لا تستطيع روسيا تحقيقه هو إزاحة الحضور الإقليمي في سوريا، وخصوصا الحضور الإيراني والتركي بسبب تداخل العلاقة بين إيران والنظام السوري وبسبب التلامس الجغرافي الكبير بين تركيا وسوريا.
العلاقة الروسية المعقدة مع كل هذه الأطراف تتطلب في المرحلة المقبلة مقدرات مختلفة تماما عن المراحل السابقة، ففي المراحل الماضية لم يكن الأمر بحاجة إلا إلى إدارة جيدة للأزمة بين مختلف الأطراف، لكن المرحلة المقبلة تتطلب أكثر من ذلك، حيث المطلوب استلام زمام المبادرة ووضع قواعد للسلوك السياسي والعسكري، وهذا أمر ربما يتجاوز حدود القدرة الروسية.
لقد فشلت روسيا إلى الآن في القضاء على المعارضة المسلحة، وفشلت أيضا في استرجاع كامل الجغرافيا السورية للنظام، وفشلت في طرح رؤية سياسية للحل يقبل بها الطرفين (النظام، المعارضة).
وإذا كانت روسيا في المرحلة السابقة كانت اللاعب الأبرز الذي تحوم حوله الأطراف الإقليمية، فإن المرحلة المقبلة قد تكون العكس، أي أن موسكو هي التي ستحتاج للأطراف الإقليمية والدولية لترتيب المشهد السياسي، فمن دون أنقرة لا تستطيع موسكو الإقدام على عملية سياسية تكون مقبولة في حدود معينة بالنسبة للمعارضة، ومن دون ضمان المصالح الإيرانية في سوريا لن تستطيع موسكو إقناع طهران بأهمية العملية السياسية، ومن دون الولايات المتحدة لن تسطيع موسكو تحصيل تنازلات من الأكراد.
الروس في عنق الزجاجة، قدراتهم العسكرية الكبيرة وصلت إلى حدها الأقصى، وبدأت تستحيل إلى عبء استراتيجي، فلا هم قادرون على وقف المعارك، ولا هم قادرون على فتح باب السياسة، فلم تستطع موسكو تحقيق أي إنجاز سياسي، وظلت انتصاراتها العسكرية بلا هدف، فانهار مؤتمر سوتشي أمام أعينها.
إن تثبيت الحضور الروسي في سوريا يتطلب اختراق سياسي يوازي الاختراق العسكري، لكن مثل هذا الاختراق يجب أن يأتي من دمشق، ولا تبدو المعطيات القائمة بأن موسكو قادرة على فعل ذلك.