هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من أسخف العبارات التي
صارت على كل لسان وقلم، "الزمن الجميل"، والمراد بها عصر ذهبي لم تمض
عليه أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة، ويعمل على الترويج لها جيل الكبار، من باب
الاستخفاف بجيل الشباب، بينما ابتلع الطعم بعض الشباب وصاروا يتكلمون عن زمنهم
الرديء.
وقد عاشت أمة الأعراب بضعة قرون، طفيلية
تجتر إنجازات علماء العصر العباسي والأندلس، وتذكِّر الغرب الصليبي بأن صلاح الدين
منا، وكأن بالإمكان استنساخه عند اللزوم، ليقف في وجه الروس والأمريكان والروم.
وأحسب أنني ملم بجوانب كثيرة للثقافة
الغربية، التي يعتبرها الكثير من العرب سما زعافا، يستهدفهم وجوديا وفكريا، ولكنني
لا أعرف – واعتبر نفسي، في ضوء اعتبارات حسابية بحتة على الأقل، شاهدا على العصر
الذي نحن فيه في خُسر- ماذا أعد العرب لمواجهة هذا الاستهداف المفترض أو الحادث
فعلا.
تكمن مشكلتنا عربا عاربة ومستنسخة (مثلي)،
في أننا لا نحسن سوى إعادة تدوير الكليشيهات/ العبارات المعلبة/ المحفوظات
المستهلكة: المصير المشترك والقضية القومية والوحدة الحتمية والتضامن.
ونتحدث عن بعضنا البعض
مستخدمين كلمة "الأشقاء"، بينما ما بيننا من شقاق، سبب شقيقة تستعصي على
العلاج، وما من دولة عربية، إلا وأخرى "شقيقة" لها، هي الأكثر كيدا لها.
النظام التعليمي العربي مكرس تماما لإنتاج
آلات تسجيل ببغاوية يتم شحنها بمحفوظات، حتى تصبح عاجزة عن استيعاب كل أمر يتطلب
التفكير والنقد والتحليل.
هل هناك شخص عربي جلس على كرسي الدراسة عشر
سنوات أو أكثر، لا يحفظ: الأم مدرسة إذا أعددتها..../ إذا الشعب يوما أراد
الحياة... / عيد بأية حال عدت يا عيد.../ ثم لم يستخدم أبيات الشعر هذه في كلام
مكتوب أو شفهي مرتين في السنة على الأقل؟
أظن- وليس كل الظن إثم، إن مقتلنا ليس عوار
سياساتنا الاقتصادية، أو الخلل في معالجة القضايا الاجتماعية، أو جهل حكامنا بأصول
الحوكمة الراشدة، بل يكمن في إهمالنا لأمر التنمية البشرية، وذلك بانتهاج نظم
تعليمية بائسة، وهو بؤس بفعل فاعل مبني للمعلوم، ومرفوع بـ"النصب".
كتبت هنا في عربي 21
في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2017، مقالين بعنوان "أسماؤهم وليس إنجازاتهم
عربية"، تناولت فيهما كيف أن بلداننا طاردة للعقول، بينما ترفع من شأن
"العجول"، وكيف أن المئات من أبنائنا وبناتنا أسهموا في التراث الإنساني
بالاكتشافات والاختراعات والمهارات الذاتية والمكتسبة، بعد هجرتهم إلى بلدان تقوم
أنظمتها التعليمية على إعمال وتحفيز الفكر والتفكير وحسن التدبُّر والتدبير.
كان عمري نحو تسع
سنوات، عندما حشوا مخي بفرائض وسنن الوضوء حسب النصوص الموجودة في المناهج:
المضمضمة والاستنشاق والاستنثار ورد مسح الرأس، وعلمونا أن من نواقض الوضوء ما
يخرج من السبيلين، ودخول حشفة الذكر أو قدرها من مقطوعها في فرج المرأة!
ودرسونا غسل الجنابة
وأعمارنا نحو اثنتي عشرة سنة: غسل الأعالي قبل الأسافل، والميامن قبل المياسر، ثم
زكاة الإبل: جدعة وبنت لبون، وفي زكاة المال حدثونا عن ربع العشر "إذا حال
عليها الحول"، وما زالت زكاة الإبل عندي وعند الملايين من عرب اللا بادية
مجرد طلاسم، ولم نعرف أن ربع العشر هي "واحد على أربعين"، إلا خارج
أسوار المدارس.
ولم يكلف المدرسون
أنفسهم عناء تعريفنا بالسبيلين، ولكننا كنا نعرف سلفا ما ينقض وضوء صبي، وكنا نعرف
في تلك السن الغضة أن العلاقات بين الجنسين محكومة بأوامر سماوية، ولكن أقصى ما
كنا نعرفه عن تلك العلاقات هو الزواج، دون أن نعرف لماذا أصلا يتزوج الناس، دعك
مما يتصل بالعورات.
وكنت وزملائي في شمال
السودان النوبي نحسب أننا لا نفهم تلك الألغاز في دروس "الدين"، لأننا
أعاجم وفهمنا للعربية قاصر، ولكن انتقلنا إلى مراحل تعليمية أعلى، واكتشفنا أن
أقراننا الناطقين بالعربية بالميلاد، لا يعرفون ما هو الاستنثار/ بنت لبون/
الحشفة، وإن كانوا مثلنا يستخدمون "أحشفاً وسوء كيلة؟" الاستخدام الصحيح.
دعكم من كل هذا: ماذا
نعني بوصف شخص بأنه ضخم الكراديس؟ رغم طرحي السؤال على عشرات من أعرفهم من
المتعلمين، إلا أنني لم أجد بينهم من يعرف موقع الكراديس من جسم الإنسان، وهل
للإنسان أكثر من كردس واحد، ومن ثم لا أغضب، إذا قال عني شخص ما إنني لا أعرف كوعي
من بوعي، لأنني فعلا لا أعرف البوع، ولم اسمع- مثلا- طبيبا يتحدث عن ضرورة تفادي
الإصابة في البوع، ولا أعرف أين أم الراس الذي تلقى ويتلقى فيه الناس الضربات.
وفي دروس الجغرافيا
نقلنا بالمسطرة عن المناهج الأوربية أن مناخ البحر الأبيض حار جاف صيفا ودافئ ممطر
شتاء، ويا ويل الطالب الذي يقول إن ذلك ليس صحيحا دائما بدليل وجود صحار كبيرة في
بلدان تطل على البحر المتوسط.
ونقلنا أسماء بلدان
ومدن عن الأطالس الغربية نقلا يقوم على رسم الكلمات كما جاءت باللغات الأوربية،
فصارت نايجيريا عندنا نيجيريا، ونايروبي نيروبي، وبيرما بورما، ونيبول نيبال (ولكن
مواطن هذا البلد يسمى نيبالي).
وكأنما استنهاض صلاح
الدين الأيوبي في كل ملمة لم يعد يكفينا، فقد بتنا نحاول تعريب المشاهير من الناس
"بالعافية"، وجعلنا الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، على
ما في نطق حرف العين من عناء لشخص سويسري، غاني الأصل، ويبدو أن هناك من رأى أنه
طالما أن اسم الرجل يوحي بالانتماء إلى الكوفة، فلابد أن يكون اسم عائلته عربيا
فصار "أنَن" (واسمه الحقيقي ليس فيه مد بالألف بين النونين) "عنان".
أسخف ممارسات التعريب
القسري للبلدان والمواقع، لإثبات أننا كنا "هناك"، ما يرد في بعض الكتب،
عن أن اسم الأرناؤوط جاء من أن فاتحين عربا دخلوا ما يعرف اليوم بألبانيا، ولم
يجدوا فيها مغنمنا وقالوا "عار أن نعود"، وتم تحوير العبارة على مر
الزمان، وصارت أرناؤوط"، ولا على من كتبوا ذلك، أن من فتحوا ألبانيا وحكموها
ليس العرب، بل الأتراك، وأنهم أطلقوا تلك التسمية على أهلها تحويرا لأصلها
اليوناني "أرناؤودس".
والشاهد هو أن نظامنا
التعليمي المشوه ترك بصماته في عقلنا الجمعي، وأترك لأحمد شوقي أن يقوم بتلخيص
حالنا هذا:
أثَّر البهتان فيه/
وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء / عقله
في أُذنيه