مع أنه ترحال طويل كاد أن يكون فيه أنتوني بوردان سفيرا لثقافة فن الطهو في العوالم التي زارها، إلا أنه اختار أن يترجل باكرا، وعلى نحو غير متوقع صدم كل متابعيه. هل رحل هذا الرائد الناجح بهذه السرعة، وهو على أمل أننا سنبقى في انتظاره؟ بغض النظر عن الأسئلة الكثيرة حول أسباب انتحاره وما يرافق ذلك من شجون وغموض، إلا أن هذا الراحل سيبقى في أذهان ووجدان متابعيه وقرائه حاضر الأثر والإثارة في ثقافة الشعوب، ليس ككاتب فقط عن فن الطبخ ومذاقاته المتنوعة، بل كرحالة مغامر شارك الناس حياتهم في إعداد أطباقهم ليُعرف العالم عليها.
سيبقى "بوردان" زائرا على موائد الطهاة، بالفنون التي قدمها وبالخبرات التي راكمها، وبالمذاقات التي تعلمها وعلمنا إياها، بزخم حضوره الفائق اللافت والحيوي والمثير. في ذلك الترحال الغني الذي قدم فيه عن ثقافات الشعوب ما هو جميل ورائع، ليس بالبحث والتنظير، وإنما بواقع حسي من خلال برامجه في زياراته المتكررة لمختلف البلدان في العالم.. من إيران للبنان للضفة الغربية، وقد تكون بلدان عربية أخرى.
في رحلات مغامرات لبلدان لم تخطر على بال طاه، جال "بوردان" أسواق خضارها ولحومها ومراكز الصيد ومحلات البهارات، والأنواع الطريفة من التنويعات الغذائية، وشارك الناس في الطبخ وصنع الشراب والحلوى، وحكى لنا ببساطة وفكاهة عن تجاربه فيها.
كتب "بوردان" بنزعة ساخرة جريئة، موجها رسائله الإنسانية التي تعلن عن مواقفه من خلال مشاهداته وملاحظاته، لجمال وبساطة حياة الناس. كتب عن أحاسيسه الصادقة التي تعبر عن انحيازه لحضارة الشعوب، كارها على ما يبدو، سياسات الحكام وقذارات ألاعيبهم. ففي الضفة الغربية، قال ساخرا إن السلطات "ستتهمه بأنه مناصر للفلسطينيين الإرهابيين"، وقال في فيتنام إنه "شعر بأنه يريد أن يخنق كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون بيديه"، ربما لأنه شن الحرب على شعوب هذا الشعب الوادع.
كانت له فلسفة مقدامة، بسط فيها بعضا من تجاربه، بكتابات مختلفة انتقد فيها نفسه والآخرين، في عالم صعب المراس، كعوالم حياة الطهاة الكبار والكواليس التي تدور فيها الدسائس البشعة في الأجواء التنافسية للمطابخ الراقية.
هناك الكثير الذي يمكن أن يحكى عن هذا الشيف العالمي الذي ذاع سيطه وأصبح نجما معروفا. لا نعتقد أنه سينطفئ برحيله المؤلم الذي قد يشير إلى أنه قد آثر أن يترك قذارة هذا العالم عامدا، ربما من اكتئاب ومرارة لقسوته، ليجعلنا ننتظر عودته الإنسانية المشرقة دون ألم القسوة والظلم الذي يملأ هذه الدنيا.