كان أبو فراس يندب ويشكو، وكأنه أبو فراس الحمداني في الأسر، وقد أضواه الليل وبسط يد الهوى، فقلت في نفسي: إنه واحد من كثيرين فُجعوا بالاغتراب والتهجير عن الوطن، وفقدان الأندلس الأولى (الطبعة الأصلية)، وتمزقتْ أسرته.. لقد فقد زينة الحياة الدنيا، المال والبنون، لكنه استطاع لم شمل شتات الأسرة بعد كفاح ونضال، وإن خارج الوطن، وتلك نعمة كبرى، لكنه ما يزال يشكو، وكأن الليل قد أضواه.
قال: أناديه بابا، فلا يرد إلا همساً، أو همهمة. صوته كأنه خارج من بئر عميقة. أظنه يعاني من بردة (وهي عكس الحُمّى) الاكتئاب.
قلت: لعل أبا فراس يعاني من جفوة أبيه، آباؤنا كانوا جفاة، لكن ما يسمى صراع الآباء والأبناء في الغرب لا يسري على أمة العرب والترك والكرد، فكنا في الجاهلية نقدس الآباء، ولا نزال نحترمهم، وإن أوهنت المسلسلات والأفلام الأجنبية والتربية الحديثة قيم الأسرة، وعرى الأبوة، وأرحام البنوة، في مقابل تقوية حب الأب القائد الذي ينهض حبه على هذه الدعامة: إما أن تحبوني، أو أقتلكم.
قال أبو فراس: كأنه يتجاهلني، ولا يحس بوجودي أو يعيرني اهتماماً، أما الاحترام فهو مفقود، وهذا يؤلمني.
قلت: هذا وباء عام طام، أصيب الجميع بمرض"البوبينغ"، وهو تعبير اصطلح عليه علماء وباحثون وفلاسفة، وصانع كلمات متقاطعة، اجتمعوا في جامعة سيدني، ووصلوا إلى مصطلح البوبينغ، بعد مناقشات طويلة، لوصف إخلاص عاشقي الهاتف الجوال لهواتفهم وتجاهل أصحابهم. لو كنت مدعواً إلى اجتماع المصطلح الذي جرى في قاعة إحدى الجامعات؛ لاستفدت من اسم روبنسون كروز، وأطلقته على المرض.
ثم كدت أن أقول: التغريب كان عقوبة شرعية، والنفس مكسورة، والصوت مخنوق، الأمل ذابل، وأبوه معذور.. لقد فقد وطنه، وقلت في نفسي إن لويس العاشر حذف حرفاً من اللغة الفرنسية لعيب في نطقه، أما رئيسنا المفدّى فجعلنا نتعلم لغات الأرض كلها.. الألمانية والتركية والإغريقية.. ومن نكد الدهر أن لقب رئيسنا المفدى كان الأمل.
تذكرتُ فلماً وثائقياً على الجزيرة الوثائقية عنوانه: "اختفاء الملوك، حين تترجل الملكة"، شاهدته منذ يومين، ويروي قصة أسرة ليوث في صحراء هواني الأفريقية، وكانت مؤلفة من خمسة ليوث ضراغم، تتعاون على الصيد، وكان هواها في صيد ناطحات السحاب اللحمية المتحركة، التي يسمونها بالزرافات، وهو ليس أمراً سهلاً، فشاهدنا مشاهد ملحمية في تلك البادية المبسوطة مثل راحة اليد.
تعرضتْ الأسرة إلى الفناء قتلاً بأيدي القرويين، دفاعاً عن أبقارهم وأغنامهم، فلم ينج منها سوى الليث الأب، فسعى العالم فيليب، الذي قضى سبع عشرة سنة وهو يراقب أسرة الليوث، وصوّر سلسلة من الأفلام الرائعة، إلى تخدير الليث الأب، ونقله بعيداً مسافة 120 ميلاً حتى يحميه من طلقات القرويين، لكن الليث خلال خمسة أيام عاد إلى الوطن. ولم أعرف هل اشتاق الليث إلى العرين القديم، أم أن حاله كان كحال الشاعر قيس بن الملوح الذي قال:
قلت هكذا استفاق الليث الأب، بعد عملية التهجير. وفكرت في أن اقترح عليه عرضه على طبيب نفسي، ثم تراجعت: من أين للطبيب الألماني أن يفهم نفسية السوري المعقدة؟ ستحتاج نفسه إلى مكشفات معقدة ومترجم يترجم خلجات النفس وحسراتها، هذا إذا استطاع أن يستدرج المريض للحديث والبوح.. لن ينفع.
قال: أدعوه إلى نزهات.. تعرف طبيعة ألمانيا الخضراء، مشاهد خرافية، طرقات مغطاة بالشجر، أنهارا وجداول، أسمع يومياً ستة بلابل تغني معزوفات أغاني الصباح، لكنه لا يحفل لها.
كانت خسائر الأمة كبيرة.. مصر تعطش، وشعبها يهرب من البلاد، وقادة العراق لصوص، والقدس باتت منسية، وسوريا مدمرة، واليمن مدمر؛ لعله حزين على إصابة محمد صلاح بطل العرب.
قال: لا يشتهي الطعام، ولا يهوى الرياضة، كل يوم نسأله عن الطعام الذي يحب، لكنه يلوح بيده دون اهتمام.
قلت: الجيل القديم أفنى حليمات لسانه الذوقية في شرب الشاي والتدخين، ولا عتب عليه.
قال: أناديه فلا يرد، كأنه لا يرى ولا يسمع.
كنت لا أزال أبحث في نفسي عن تسويات وتبريرات: من جيل الهزيمة إلى جيل الهزائم بالجملة.
قال: أحيانا يشاركني مشاهدة برامج مضحكة مثل"جو شو" و"نور خانم"، فأجده واجماً ساكتاً ينظر وكأنما إلى أفلام تراجيدية مثل "البؤساء" أو "الطوق والأسورة".
هنا دخل علينا ابنه فارس، فسلّم تحيةً بيده من غير كلام، وانتزع جهاز الشحن من مأخذ الكهرباء وخرج.
قال: أرأيت.. هذا حالي معه.. تظنه كأنه في سنّ الخمسين.
سألت: أكنت تتحدث عن ابنك؟
قال: نعم .
قلت والله ظننت أنك تتحدث عن والدك.
قال: الابن هو أب جديد، هكذا يقول علم النفس.
وكان فراس، فتى العشرين، قد غادر، وظننت أن شعره كان قد ابيضّ من وحشة المنفى ووحشة الهاتف الجوال، الذي يذكر بقول الوليد بن المغيرة: سحر يفقر بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته وبين المرء.. ونفسه.