هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دعمت تركيا منذ اندلاع ثورات الربيع العربي مطالبة الشعوب العربية بالحرية والكرامة، كدولة تطبق النظام الديمقراطي وتدعو إلى احترام الإرادة الشعبية. ونصحت الحكومة التركية بشار الأسد بإجراء إصلاحات تلبي مطالب الشعب السوري ولو بالتدرج، إلا أن نظام الأسد لم تكن لديه قابلية للإصلاح، واختار الارتماء إلى أحضان إيران وروسيا وقتل الشعب الثائر.
تركيا أكدت بعد فترة وجيزة من بداية الأحداث في سوريا، وبعد أن تيقنت أن بشار الأسد سيسلك طريق بقية الطغاة بدلا من طريق الإصلاح، قطعت علاقاتها مع دمشق، وقالت إن النظام السوري فقد شرعيته، ودعت إلى إسقاطه.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعا أكثر من مرة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى إقامة مناطق آمنة في الأراضي السورية لحماية المدنيين من القصف العشوائي، إلا أن الثاني تجاهل تلك الدعوات كي يطول أمد الحرب حتى تتمكن واشنطن من تحقيق أهدافها، كتقسيم سوريا وإقامة ممر في شمال سوريا يمتد من الحدود العراقية إلى البحر الأبيض ويسيطر عليه حزب العمال الكردستاني.
المشروع الأمريكي في سوريا يشكل تهديدا كبيرا للأمن القومي التركي. وبعد أن بذلت أنقرة جهودا دبلوماسية مكثفة لدفع واشنطن إلى العدول عن هذا المشروع والتخلي عن دعم المنظمة الإرهابية بحجة محاربة تنظيم داعش الإرهابي، رأت أن الإدارة الأمريكية، سواء في عهد أوباما أو عهد ترامب، تمارس سياسة المماطلة والمراوغة للمضي قدما في إنجاز ذاك المشروع الخطير الذي يهدد حاضر تركيا ومستقبلها. وهذا ما دفع القيادة التركية إلى إعادة النظر في حساباتها والبحث عن طرق جديدة لمواجهة ما تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه في شمال سوريا.
العلاقات التركية الروسية كادت تنهار بالكامل عقب إسقاط الجيش التركي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 مقاتلة روسية اخترقت الأجواء التركية، ولكنها عادت إلى طبيعتها بعد الجهود الحثيثة التي بذلتها أنقرة لترميمها، بالإضافة إلى شعور الطرفين بأن هناك من يسعى للإيقاع بين تركيا وروسيا. وعزز التقارب التركي الروسي قدرة أنقرة على مواجهة مشروع التقسيم.
جلوس تركيا مع روسيا وإيران على الطاولة لإجراء المباحثات حول الملف السوري فتح أمام تركيا مساحة واسعة للمناورة يمكن أن تتحرك خلالها للقضاء على خطر الإرهاب الذي يهدد أمنها القومي، إلا أنه لا يعني أن هناك تطابقا تاما بين رؤى الدول الثلاث. بل هناك خلافات عميقة في قضايا عديدة، أبرزها الموقف من بشار الأسد ونظامه الدموي.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف طالب تركيا بتسليم منطقة عفرين إلى النظام السوري بعد انتهاء عملية غصن الزيتون. ورد عليه أردوغان قائلا: "هذا الموقف خاطئ، نحن نعلم جيدا لمن سنعيد عفرين"، وأضاف: "سنسلم عفرين إلى سكانها عندما يحين الأوان، ونحن من يحدد هذا الوقت، وليس السيد لافروف".
الرئيس التركي في رده على وزير الخارجية الروسي ذهب إلى أبعد من ذلك، وأشار إلى ضرورة الحديث أولا عن تسليم المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الدول الأخرى في سوريا، في إشارة إلى روسيا وإيران، وقال: "عبارة أن النظام هو الذي سلم تلك المناطق إلى الدول الأخرى، لا تطمئن تركيا". وتؤكد هذه التصريحات مدى حساسية الأرضية التي تسير عليها التفاهمات التركية الروسية، على الرغم من التقارب الأخير.
أنقرة تتفق مع موسكو وطهران في مواجهة مشروع تقسيم سوريا، ولكنها في الوقت نفسه ما زالت تدعم الثورة، وترى أن نظام الأسد لا مكان له في مستقبل سوريا. وتؤيد إسقاط نظام الأسد ليحكم بلاد الشام نظام ديمقراطي يمثل إرادة الشعب السوري. وهذا ما أكده وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو الأربعاء حين قال إنه "بات من الضروري إبعاد نظام الأسد عن هرم السلطة في سوريا على وجه الشرعة والانتقال إلى مرحلة الحل السياسي"، لافتا إلى أن بشار الأسد قتل نحو مليون سوري بواسطة الأسلحة التقليدية والكيماوية.
ضرب النظام السوري السفاح ومعاقبته أمر يستحق التصفيق والإشادة، إلا أن الأهم من ذلك أن لا تؤدي الضربات المحتملة إلى صراع دموي بين القوى الدولية والإقليمية على أرض الشام يدمر ما بقي من المدن والحواضر الإسلامية العريقة، وتدفع ثمنه شعوب المنطقة.