هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما أن انطلقت العملية العسكرية لـ"الجيش الحر" والجيش
التركي في عفرين، حتى بدأت وسائل إعلام عربية وكتاب عرب وسوريين بشن هجوم على
التدخل التركي، مرة تحت عنوان رفض أي تدخل خارجي في سورية، ومرة أخرى تحت عنوان
أيديولوجي دوغماتي "استعادة أمجاد الدولة العثمانية".
وما
لبث الهجوم على تركيا أن تضاعف مع بدء معركة الغوطة الشرقية، ومحاولة وسائل إعلام
معينة ربط المعركتين قسرا مع بعضهما البعض، في محاولة للاستنتاج أن سقوط الغوطة
دفع ثمنه مسبقا في عفرين، أي أن تركيا هي السبب في سقوط الغوطة، كما كانت السبب في
سقوط مدينة حلب.
وإذا
كان مفهوما أن تتبنى بعض وسائل الإعلام هذا التوجه بسبب ارتباطها بسياسات دول
معينة، فإن الغريب أن يُقدم على ذلك كتاب عرب وسوريين لهم اسمهم ومكانتهم بتبني
هذا التوجه عبر كتابة مقالات تهاجم السياسة التركية بقسوة.
ليس
هذا المقال دفاعا عن تركيا، وإنما محاولة لتقديم قراءة موضوعية للسياسة التركية في
سورية بشكل عام، ولما يجري عسكريا بشكل خاص.
لم
تقم تركيا بخفض منسوب خطابها وسلوكها السياسي/ العسكري تجاه النظام السوري نتيجة
لانعطافة أيديولوجية أو سياسية، وإنما فرض عليها ذلك فرضا بسبب حصول ثلاث تطورات
هامة خلال السنوات الأربع الماضية:
ـ
اختلاف القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة فيما بينها، الأمر الذي منع تشكل كتلة
عسكرية/ سياسية وازنة ذات بنية متماسكة قادرة على إحداث الفرق.
ـ
الفيتو الأمريكي المضمر الذي وضع حدا لتسلح المعارضة، ووضع حدا أيضا للتحالفات بين
الفصائل المسلحة، بعبارة أخرى رفضت الولايات المتحدة إسقاط النظام عسكريا، وتم
إبلاغ ذلك مباشرة للحلفاء الإقليميين.
ـ
ظهور "وحدات الحماية الكردية" وسيطرتها بشكل سريع على معظم الحدود
السورية ـ التركية، ترافقت بخطوات عملياتية لإنشاء كيان كردي له طابع الديمومة.
أمام
هذا الواقع الذي لا يسمح بإسقاط النظام عسكريا، ولا يسمح بتبني مسار سياسي واضح
المعالم ينتهي ولو بعد حين إلى إقامة نظام ديمقراطي من جهة، ونشوء قوى معادية على
حدودها الجنوبية تهدد مصالحها القومية العليا من جهة ثانية، اضطرت تركيا إلى
التحول نحو الشرق والتفاهم مع روسيا لإعادة ترتيب المشهد العسكري في مدينة حلب
وريفها الشمالي.
لقد
جاءت معركة عفرين استكمالا لـ "درع الفرات" في أهدافها الاستراتيجية،
وهي حصيلة تفاهمات تركية ـ روسية وتركية ـ أمريكية بخصوص المسألة الكردية، وليس
لها علاقة إطلاقا بالصراع الدائر بين النظام والمعارضة، فهي أصلا معركة خارج
تفاهمات أستانا.
وإذا
كان البعض قد برر مهاجمته عملية عفرين بحجة أنها نوع من الاحتلال الأجنبي لأراض
سورية، فإن هذا المبرر سرعان ما ينهار في ضوء امتلاء الساحة السورية بقوات عسكرية
من كل حدب وصوب، بعضهم لهم أجندات تتجاوز الجغرافية السورية وبعضهم دخل لتمكين
النظام وقتل المعارضة.
كما
أن الهجوم على العملية العسكرية التركية يساوي بقصد أو من غير قصد الحضور العسكري
التركي بالحضور العسكري الروسي والإيراني، وهذه مساواة لا تستقيم، فإيران وروسيا
لهما أهداف عميقة داخل سورية، ولديهما رغبة في الهيمنة على صناعة القرار بدمشق،
وعلى ثروات البلاد، وعلى موقعها الاستراتيجي، في حين ليس لدى تركيا هذه الأهداف،
وجل ما تهتم به هو منع قيام كيان كردي يهدد مصالحها، في وقت تشكل الاستثناء الوحيد
في المنطقة في حجم الدعم المقدم للسوريين، سواء داخل أراضيها، أو في مناطق سيطرتها
داخل سورية، حيث منطقة "درع الفرات" هي المنطقة الوحيدة الآمنة، فلا
يحصل فيها اختطاف قسري ولا اغتيالات ولا اعتقالات.
أما
بخصوص ربط معركة الغوطة بمعركة عفرين، فهذا تجني كبير ورعونة سياسية تتجاوز
الجغرافيا ولعبة الأمم في سورية.
لا
تمتلك تركيا بحكم البعد الجغرافي أي حضور في الغوطة، ففصائل الغوطة لا تلقى دعما
من تركيا ولا ترتبط بأجندتها السياسية والعسكرية.
وقد
جاءت معركة عفرين قبل تسعة أيام من مؤتمر سوتشي، ضمن محاولة روسية لإرضاء تركيا من
جهة ومواجهة المشروع الأمريكي بتشكيل قوة حدود كردية من جهة ثانية، أما معركة
الغوطة فقد جاءت انتقاما من المعارضة التي رفضت حضور سوتشي بطلب غربي وليس بطلب
تركي، كما جاءت ضمن محاولة روسية لتوسيع مناطق نفوذ محورها، وعند هذه النقطة يمكن
ربط المعركتين ضمن التنافس الأمريكي الروسي المعقد.
وإذا
كان ثمة جديد في معركتي الغوطة وعفرين، فهو أن المعركة الأولى تشكل عنوانا لإخراج
القوى العربية من المشهد العسكري السوري، في حين تشكل معركة عفرين عنوانا لتزايد
الحضور التركي في المشهد السوري بسبب حاجة موسكو وواشنطن لها بحكم موقعها الجغرافي.