هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة مؤشرات مقلقة تبنئ بأن العالم العربي، وبعد مرور سبع سنوات على اندلاع الربيع العربي، لم يتجاوز نقطة الخطر، إن لم يكن دخل بالفعل في شروط سياسية واقتصادية ممهدة لفعل شعبي عارم، ربما يكون أكثر حدة من الانتفاضة الشعبية التي عاشها العالم العربي منذ سنة 2010.
في مصر، لا نحتاج لجهد كبير في الاستدلال، فلا الوضعية الاقتصادية ولا السياسية، تجادل هذه الحقيقة، فكل الأحلام الوردية التي وعد بها نظام عبد الفتاح السيسي، سقطت أمام الواقع العنيد، وسقطت معه المؤشرات الاقتصادية بشكل مروع، ولم تستطع مصر طيلة أربع سنوات من حكم السيسي أن تحقق هدف الاستقرار السياسي، وهي اليوم، بسبب رهان السلطوية، تغامر بما تبقى من أمل، بإضفاء مزيد من الانسداد على العملية السياسية، وإدخال التوتر إلى مربع المؤسسة العسكرية.
أما السعودية، التي انتبهت متأخرة إلى مخاطر رهن الاقتصاد بعائدات النفط والغاز، ودخلت في إصلاحات اقتصادية، لتهيئ بديل اقتصادي مستقل ببنيته الصلبة وخياراته الاستراتيجية، لم تستطع إلى اليوم أن تسوي قضية الانتقال السلس للسلطة، بتوافقات تنهي الاحتقان داخل المؤسسة الملكية، وتدمج النخبة الاقتصادية في رؤيتها الاقتصادية في سياق تصالحي، وتنتج سياسات خارجية لا تبعثر رهاناتها في الداخل. وهو ما يجعل الإصلاحات برمتها رهينة رؤية استالينية غير مضمونة النتائج في واقع دولي متحول.
والمثير للملاحظة، أن الإمارات العربية المتحدة نفسها، التي يختلف وضعها عن السعودية باستباقها لقضية الإصلاحات الاقتصادية، وبوجود قدر مهم من الاستقرار السياسي في بنية حكمها، إلا أن مشكلتها الاستراتيجية تتمثل في ديمغرافيتها المفتوحة من جهة، واتجاهات سياستها الخارجية التي تتسم بالمغامرة في التدخل في العديد من المناطق، إذ يجتمع هذان العنصران ليشكلا تحديا مركبا يجعل الإمارات عاجزة عن مواجهة المخاطر الناتجة عن مخرجات سياساتها الخارجية. فأي هزة عنيفة يمكن أن تشهدها الإمارات بسبب مخرجات سياساتها الخارجية، سيعرض بنيتها الديمغرافية للاهتزاز كلية، بحكم أنها لحد الساعة لم تلجأ لخيار التوطين، في ظل وجود ثلاثة أجيال من جنسيات آسيوية تؤسس مشهدها الديمغرافي.
أما في المغرب العربي، فالوضع أكثر سوءا، خاصة بالنسبة للجزائر وتونس. فحتى الآن، لم تستطع الجزائر أن تؤسس لنموذج اقتصادي جديد قادر على تعزيز صلابته وتنافسيته أمام التحولات التي ترفعها اقتصاديات العالم، وهو ما جعلها تعاني أكبر نكسة اقتصادية خلال السنوات الأربع الأخيرة بسبب بارتهان اقتصادها لعائدات النفط والغاز التي عرفت انخفاضا كبيرا نزل عن سقف 40 دولارا بالنسبة لأسعار النفط. فإذا أضيف على ذلك هشاشة الاستقرار السياسي، فإن الوضع مرشح للانفجار في أي وقت، وربما بحدة لم تشهدها منطقة المغرب العربي من قبل.
أما تونس، فمؤشراتها الاقتصادية في السنتين الأخيرتين وصلت مستويات جد سلبية، اضطرتها إلى الدخول الفعلي في تنفيذ إجراءات تقشفية صعبة - برزت بشكل واضح في قانون المالية 2018 - لا يمكن التنبؤ بإمكان نجاحها في ظل تصاعد الاحتجاجات على خلفية ضرب القدرة الشرائية للمواطنين، هذا فضلا عن ارتهان اقتصادها الحالي لمنطق الموازنات المالية، وخضوعها لنفس النمط الخدماتي السابق، وعدم وجود أرضية صلبة لبناء اختيارات اقتصادية استراتيجية.
أما المغرب، والذي يتمتع نسبيا بوضع اقتصادي أفضل ضمن دول شمال إفريقيا، فخياراته الاستراتيجية ذات البعد الاقتصادي؛ إما محدودة أو فيها قدر من المخاطرة غير مضمونة النتائج. فمن جهة، فالاقتصاد المغربي، يرتهن بشكل أساسي لشركائه في أوروبا ودول الخليج، وهو ما يعرضه لتحديات جمة عند أي اهتزاز لدى شركائه. وهو من جهة أخرى؛ محكوم عليه بالحصار، بحكم عدم قدرته، لمدة أربع سنوات تقريبا، على أن يقنع شركاءه في الاتحاد المغاربي بفتح سوق مغاربية يتنفس فيها الجميع، وهو ما يفسر المخاطر في الاختيارات الاقتصادية الاستراتيجية؛ بوضع البيض كله في أفريقيا، في ظل منافسة شرسة، وعدم اليقين في عواقب تعويم الدرهم، وعدم وجود ما يكفي من الضمانات في عائدات هذا الاختيار الاستراتيجي، خاصة وأن المغرب جرب من قبل سياسات الأوراش الكبرى، وراهن عليها، وكانت نتائجها جد محدودة بالمقارنة مع ما كان ينتظر منها.
تركيب هذه الاتجاهات، يجعل الاقتصاديات العربية في مجملها محكومة بثلاثة سيناريوهات:
- سيناريو الارتهان للاستقرار السياسي: وينطلق من فرضية أن تلبية حاجيات الجماهير الشعبية في حدها الأدنى يتطلب نجاح الإجراءات الاقتصادية المتبعة على المدى القصير والمتوسط، في حين يرتبط نجاح هذه الخيارات بضرورة توفير ليس فقط الاستقرار السياسي، بل قدر مهم من الانفتاح السياسي. وينسحب هذا السيناريو على مصر والسعودية.
- سيناريو الارتهان لنموذج اقتصادي صلب: وينطلق من فرضية أن أي نجاح في تلبية حاجيات الجماهير الشعبية في حدها الأدنى يتطلب توفير شروط نجاح الخيارات الاقتصادية المعتمدة، أو بناء نموذج اقتصادي صلب قادر على فك عقدة الارتهان إلى النمط الاقتصادي القديم. وينسحب هذا السيناريو على الإمارات؛ التي يحتاج تمتين نموذجها الاقتصادي حل معضلة البنية الديمغرافية وإعادة صياغة مفردات سياستها الخارجية لجهة الحياد. كما ينسحب على المغرب؛ الذي يحتاج نموذجه الاقتصادي لقدر كبير من الشفافية والحكمة ومعالجة معضلة الاحتكار، لتقوية القدرة التنافسية التي تجعل الاقتصاد قادرا على المضي بعيدا في خياراته في العمق الأفريقي، كما ينسحب على النموذج التونسي الذي يحتاج إلى بناء نموذج اقتصادي جديد يقطع مع الطابع الخدماتي السابق للاقتصاد التونسي.
- سيناريو الارتهان للاستقرار السياسي وللخيارات الاقتصادية الناجعة معا: ويجمع هذا السيناريو معطيات السيناريوهين السابقين معا. إذ تعرف بعض الدول العربية، إلى جانب افتقاد الرؤية لخوض إصلاحات اقتصادية ناجعة، هشاشة الاستقرار السياسي، كما هو الحال في الجزائر ومصر أيضا، وذلك بسبب انسداد النسق السياسي والاقتصادي، وتحكم المؤسسة العسكرية في الثروة والقرار.
حتى الآن، لا تبدو في دول العالم العربي مؤشرات كافية على نجاح أي سيناريو من هذه السيناريوهات الثلاثة، فضلا عن كون فشل بعض السيناريوهات في بعض الدول مثل دول الخليج أو مصر، يمكن أن يكون له انعكاس دال على بقية السيناريوهات في الدول الأخرى، مما يعني أن مؤشرات عودة الربيع العربي في هذه الدول ليست فقط ممكنة، بل موجودة وبقوة.
وما يبعث على القلق بالفعل، أن ما كان يبرر في السابق هدوء الشارع العربي، هو الوضع السوري والليبي، وأن الناس اختارت في نهاية المطاف مطلب الاستقرار على مطلب الحرية والكرامة. لكن، في حالة فشل هذه السيناريوهات الثلاث بعد سبع سنوات عن الربيع العربي، فإن المرجح أن أولوية الحرية والكرامة ستعلو على ما عداها، وأن النموذج السوري والليبي وحتى اليمني لن يكون مثبطا للجماهير للتعبير عن مطالبها في العيش الحر والكريم، وربما بربيع عربي بسقف أعلى من السابق، وفي ظل ضعف مخيف لنخب الوساطة.