هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إسرائيل تحديات العزلة وأمل الاندماج
معلوم أنّ من أهمّ ما يميّز فلسطين من الناحية الاستراتيجية، وقوعها في سرّة العالم القديم، ولذا فهي ممر للطرق التجارية الهامة وهمزة الوصل بين الشرق والغرب والجنوب والشمال، وتتكامل مع بقية المنطقة ومنها شبه الجزيرة العربية، وهو من البدهيات التي وثقها القرآن الكريم في سورة الفيل عن رحلة الإيلاف، ومن يسيطر عليها يمكن أن يسيطر على المنطقة بأسرها، ولذا خطط الصهاينة منذ انطلاق مشروعهم الاستعماري للعب هذا الدور واستغلال الميزة الاستراتيجية لفلسطين، ولكن حال دون استفادتهم الكاملة من ذلك عدم قبول الجوار العربي والإسلامي لهم، فدخلوا في حالة من العزلة الإقليمية المعلنة، واعتمدوا في اقتصادهم على المساعدات الخارجية، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يستمر والمعرّض لتقلبات السياسة الدولية، ولذا جعلوا على رأس أولوياتهم كسر العزلة عن دولتهم وإدماجها في منظومة المنطقة والاستفادة منها بل وقيادتها واستخدامها لخدمتها، وقد وضّح رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز ذلك في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" الصادر عام 1996م، حيث طرح فكرة التكامل بين العقل الإسرائيلي والمال العربي من أجل تحويل المنطقة إلى واحة رخاء.
لطالما أكّد المسؤولون الإسرائيليون على وجود علاقات غير معلنة مع الدول العربية، هدفها كما يقولون، الوقوف أمام الإرهاب، متمثلاً بالمقاومة الفلسطينية وحركات الإسلام السياسي، والتي حملها الربيع العربي للحكم في بعض البلدان العربية، والوقوف في وجه إيران، العدو المشترك لهذه الأنظمة وللكيان الصهيوني، على السواء.
ولعل أكثر الشواهد والمؤشرات كانت تشير إلى السعودية التي بدت راغبة عقب انتشار الثورات العربية بالاستعانة بتحالف إقليمي تشكل إسرائيل جزءاً هاماً فيه، حتى اشتكى بعض السياسيين والمفكرين الإسرائيليين من أنّ السعودية تريد من إسرائيل أن تخوض حرباً بالوكالة مع حزب الله وإيران، وتعزّز ذلك بعد استلام الملك سلمان بن عبدالعزيز، مقاليد الأمور والطريقة التي تم بها إدارة الحرب في سوريا.
إنّ المتأمل في حالة المشرق العربي، يرى أنّ وصفة بيريز تطبق بحذافيرها، فها هي العزلة العربية المعلنة على إسرائيل قد انتهت عمليّاً، وحلّت حركات الإسلام السياسي، والتي حمل بعضها الربيع العربي إلى كرسي الحكم، مكانها بجانب النظام الإيراني بحيث أصبحت السعودية تراهما التهديد الوجودي لها وللمنطقة، مضاف إلى ذلك تمّ تدمير بلدين كانا يُعدّان تهديداً استراتيجيّاً للكيان الصهيوني وعلاوة على ذلك إفراغهما التدريجي من اللاجئين الفلسطينيين نتيجة للاحتراب العربي، مع خطة أكثر نعومة بهذا الصدد في لبنان الذي هُجِّر لاجئوه إلى أوروبا، والأردن الذي اندمج فيه الفلسطيني اندماجاً كاملاً، ما يعني تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين دون كلفة مادية أو سياسية على عاتق الصهانية وحلفائهم الغربيين.
إرهاصات التطبيع السعودي مع إسرائيل
إنّ محاولة الكيان الصهيوني فكّ العزلة عن نفسه عن طريق السعودية كان لها عديد من الشواهد خلال المدة الفائتة، إذ أخذت تطفو مساعٍ تطبيعيّة سعودية إلى السطح بالتدريج، وسط نفي وزارة الخارجية السعودية، سواءً عن طريق الأمير تركي الفيصل، المدير السابق للمخابرات السعودية، أو اللواء أنور عشقي،الضابط السابق في الاستخبارات السعودية، والذي أطلق العديد من التصريحات التي تم استهجانها عربيّاً دون أن تحاسبه دولته عليها، ما فُهم على أنّه قبول سعوديّ ضمني لتصرفاته وتصريحاته، وأتبعها بلقاءات معلنة مع زعماء صهاينة في واشنطن في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ثمّ بزيارة معلنة مع وفد سعودي في تموز 2016م إلى الكيان الصهيوني، وأخيراً إعلان إسرائيل عن زيارة مسؤول سعودي كبير، كشفت الصحافة الإسرائيليّة أنّه الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعليّ للمملكة.
ولعل كتاب "النار والغضب" لمايكل وولف، الذي صدر مؤخراً يوضّح طريقة تمكين محمد بن سلمان من مقاليد الأمور في بلده، وصعوده الصاروخي تجاه العرش السعودي، ويبيّن أنّ عرابّها صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، "جاريد كوشنر"، ولذا فيمكننا فهم تماهي الموقف السعودي مع الموقف الأمريكي ومن خلفه الإسرائيلي بخصوص تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما نقرأه في إعلان عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد مجدلاني، أنّ محمد بن سلمان استدعى محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية إلى الرياض واطلعه على بنود خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية المسماة بصفقة القرن، وضغط عليه لقبولها.
الهند باب إسرائيل الخلفي للسعودية
يبدو أنّ لزيارة نتنياهو إلى الهند في 13 يناير الحالي، تأثيرات هامة ولكنها قد لا تكون متوقعة، إذ أنّ الافتراض السائد أنّ الحكومة الهنديّة تراعي مصالحها مع الأنظمة العربية المعادية ظاهريّاً، وللثقل الإسلامي الداخلي والخارجي، وعلى رأس هذه الدول العربية دول الخليج، باعتبارها مزود الهند الرئيس بالطاقة، وسوق كبير لمنتجاتها واستثماراتها وأهم من ذلك كله، هناك ما يُقدّر بحوالي عشرين مليوناً من المقيمين الهنود في الخليج، ما يعني أنّ حجم التحويلات الأجنبية الضرورية للتبادل التجاري الدولي، التي تأتي من دول الخليج، تمثِّل عصباً حيويّاً للاقتصاد الهندي الذي يطمح أن ينافس بشدة على المراتب الأولى عالمياً، وفي طليعة هذه الدول المملكة العربية السعوديّة، مهبط الوحي وموطن الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وهي المرجعيّة الروحيّة لملايين المسلمين الهنود، ولها تأثير كبير في جنوب آسيا وخصوصاً في باكستان، ما يجعلها رقماً صعباً في أيّ خلاف إقليمي يمكن أن ينفجر في أي لحظة في هذه المنطقة المشحونة بالعدوات.
إنّ المستقرئ لاستراتيجيات الدبلوماسية الإسرائيلية يرى لديها مرونة فائقة وقدرة على النفاذ عبر الشقوق الضيقة لإقامة علاقات مع دول جديدة، أو تعزيز علاقات قائمة، أو تحويل المعارضين إلى مؤيدين، أو على الأقل تحييدهم في الصراع القائم مع الفلسطينيين، ومن ذلك أنّ لديها ترسانة لا متناهية من العلاقات والأساليب التي توظفها لهذا الغرض. على الصعيد الرياضي على سبيل المثال، رأينا الرياضيين الإسرائيليين يشاركون في بطولات عُقدت في بلدان عربية مختلفة، سمحت لهم بالمشاركة بذريعة التزامها بقوانين اتحادات الرياضة الدولية، وهو باب لولوج الإسرائيليين إلى الدول العربية تحت غطاء الرياضة، كما تم تحت الغطاء الديني السماح للماليزيين، على سبيل المثال بالسفر إلى فلسطين المحتلة بذريعة الحج للمسيحيين وزيارة للمسجد الأقصى والقدس للمسلمين، وأنشأت إسرائيل تحت حجة التجارة والأعمال مكاتب وأعمال تجارية في أكثر دول الخليج وأكثر من بلد عربي لا تقيم معه علاقات دبلوماسية معلنة، مثل المغرب وتونس، وحتى إغاثياً تستغل إسرائيل الكوارث الطبيعية مثل التسونامي والزلازل من أجل التسويق لنفسها، فتجدها مشاركة في كل مكان تحصل فيه كارثة من هذا النوع، تارة في سريلانكا وأخرى في نيبال ومرة في هايتي وهكذا، وتعد إسرائيل من أنشط الدول في مجال العمل الإغاثي، وفوق ذلك تستخدم شبكة علاقاتها من رجال أعمال يهود منتشرين من استراليا حتى أمريكا، في نسج علاقاتها الدولية، فكما لاحظنا مؤخراً فإنّ الوفد اليهودي الذي تسربت صور وفيديوهات زيارته من البحرين، والتقى بكبار تجار البحرين وجرّهم إلى مربع التطبيع كان من يهود الولايات المتحدة الأمريكية، بينما كان الذي أقنع رئيس وزراء الهند السابق نسيماراو بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل عام 1993م، من يهود استراليا، فضّلاً عن امتلاك إسرائيل لشبكات ممتدة من الإعلاميين ورجال الأعمال والسياسيين والبروقراطيين الذين كانوا ثمرة لبرامج الدبلوماسية الشعبية الإسرائيليّة الفعّالة، وهم موجودون في كل المستويات في دولهم، ويعملون جاهدين لتحسين صورة إسرائيل وإقناع مواطنيهم بإقامة وتعزيز العلاقة معها.
هل تحلق إسرائيل فوق جزيرة العرب؟
فلا غرابة إذن أن يحاول نتنياهو أن يستخدم خطوط الطيران والنقل الجوي كأداة إضافية لتحقيق التطبيع مع المملكة العربية السعودية، بل إنّ ذلك يبدو منطقيّاً تماماً بالنظر إلى تعدّد الأساليب الذي أشرنا إليه آنفاً. اليوم، لا يوجد طيران مباشر بين الهند وإسرائيل عدا ما توفره شركة "إل عال" الإسرائيلية، علماً أنّ الهند كانت قد أوقفت رحلاتها إلى إسرائيل قبل حوالي عشرين عاماً، وبسبب أن إسرائيل ترفض أن يمر الخط عبر باكستان وأفغانستان وإيران وكلها دول لا تقيم علاقات دبلوماسية معها، ومع تزايد عدد المسافرين الإسرائيليين والذين وصل عددهم إلى حوالي تسعين ألفاً العام الفائت والهنود الذين وصل عدد إلى خمسة وأربعين ألفاً، وتعمق العلاقة بين البلدين صار من الضروري أن يكون هناك خط طيران مباشر وفعّال، والذي يعد أمراً غير مجد اقتصادياً في وضعه الحالي حيث يستوجب الدوران حول الجزيرة العربية ثم الطيران فوق البحر الأحمر وصولاً إلى فلسطين المحتلة ما يضيف ساعتين من الطيران إلى الرحلة ويرفع تكلفتها بحيث تخسر قدرتها على المنافسة وجذب الزبائن، والحل يقتضي الطيران فوق السعودية للوصول إلى إسرائيل بأقصر خط طيران ممكن، لذا فمن المتوقع ، كما نقلت جريدة تايمز أوف إزرائيل يوم 18 يناير الحالي، أن تعمل إسرائيل بما لها من دالة على السعوديين، على إقناعهم بالسماح بذلك، وربما يقدم ذلك للجمهور السعودي تحت ذرائع ترتبط بتنمية الاقتصاد السعودي وأهمية عدم الإضرار بالعلاقة الهامة مع الهند، خصوصاً إذا كان الطيران الذي سيعبر السعودية طيران هندي (إير إنديا) وليس إل عال الإسرائيلي، علماً بأنّه قد سبق السماح لطائرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند زيارته للسعودية في آيار 2017م بالتوجه مباشرة من الرياض إلى تل أبيب، فهناك سابقة من هذا النوع لنفس الاعتبارات السياسيّة، فالأمر من حيث المبدأ يبدو ممكناً.
وتأتي خطوة محمد بن سلمان بدفع من شركائه الأمريكيين -على الأرجح- بالإعلان عن إنشاء مدينة "نيوم" وهي حجر الرحى في رؤيته المسماة بـ 2030م، في منطقة مشتركة بين السعودية والأردن وإسرائيل ومصر وتعدّ إسرائيل العنصر الأهم فيها من ناحية قدرتها على جذب المستثمرين الدولين كالصين وروسيا، كخطوة إضافية على طريق تطبيق رؤية شمعون بيريز، ويضع الكثير من الباحثين شراء السعودية لجزيرتي تيران وصنافير المصريّتين في نفس السياق، فتعدّد الدول المشتركة في الممر البحري يجعله ممرّاً دولياً ويجعل لإسرائيل الحق في استخدامه، كما يجعل ذلك بوّابة للعلاقة بين السعودية وإسرائيل بذريعة الأمر الواقع.
يبدو أنّ منحنى التغيير في السعودية يسير باتجاه ينبئ أن لا قيود على الانعطافات السعودية الحادة في سياستها الداخلية والخارجية، وليس غريباً أن توافق السعودية على تفعيل خط طيران بين الهند وإسرائيل يمر من فوق أراضيها، خصوصاً إن كانت خطوط الطيران التي ستحمل الركاب، هنديّة وليست إسرائيلية، وربما يتم ذلك وسط انشغال الشعب السعودي بالأزمات الاقتصادية المتتالية التي بدأت تحيق به من كل جانب، وإن تسبب الأمر بأية ردود أفعال سلبية محليّاً أو عربيّاً فإنّ الجيش الإلكتروني السعودي قادر على إثارة الكثير من الغبار وإطلاق عدد كبير من الشائعات والاتهامات بكل اتجاه بحيث تتوارى القضية في زحمة المشادات والخلافات البينية المفتعلة. وإنّها لمفارقة لافتة، أن يكون حكام الحزبين الحاكمين في كل من الهند وإسرائيل في أقصى اليمين، بينما يسير محمد بن سلمان بالسعودية باتجاه عكسي ويمكنهم مع ذلك الالتقاء في الطريق.
إذن أغلب الظن أنّنا سنرى الطيران الهندي قريباً، يطير في أجواء السعودية حاملاً أفواج الإسرائليين من الجنود الذي يقضون إجازاتهم في الهند، إلى فلسطين المحتلة، وسندخل على الأرحج في حالة التساؤل عن الخطوة الإسرائيلية التطبيعية القادمة، ولك منّا السلام يا قدس.