هذه المشاهد التي تأتيكم من سوريا ومن مصر واليمن وليبيا والعراق تبدو كما لو كانت مشاهد من احد أفلام الخيال العلمي. كيف تشابهت طوابير البشر الذين غادروا رفح سيراً على الأقدام بطوابير النازحين من المدن السورية؟
الخرائب التي يخلفها القصف في ليبيا هي نفسها الخرائب التي تراها في أعقاب كل قصف في إدلب أو حلب أو الغوطة أو غيرها. الأب الذي يحمل جثمان ابنه بعد أن ارتقى شهيداً في قصف جوي في سوريا ووالده لا يصدق أنه (لم يعد) موجوداً في سجل الأحياء بنفس سرعة تتابع الحروف في كلمة (فجأة)!
هذه الأنقاض في اليمن التي تشبه شقيقتها في سوريا أو في ليبيا أو في سيناء.
هناك من يقود بلدوزر عملاق ويهدم به منطقة الشرق الأوسط.
بقدر ما اصيبت الثورات بالإرهاق واصبحت غير قادرة على الفعل (ولو مؤقتاً) فقد اصيبت الأنظمة هي الأخرى بالإنهاك والحديث هنا ليس على قدرة تلك الأنظمة في فرض ارادتها على أرض الواقع, فلابد أنها تحتفظ ببقايا شكل الدولة وتمارس سلطاتها فعلياً بما تبقى لها من مؤسسات, بل الحديث هنا على قدرة تلك الأنظمة على الاستمرار في التظاهر بالاستقرار
ولو قُدر لأحدهم أن يدخل في غيبوبة سنة 2011 ثم يستيقظ الآن, لعاد من جديد إلى الغيبوبة, فشكل المنطقة قد تغير ولم يعد هناك حجر قائم. وفوق كل هذا, هناك حالة من الانهيار الايديولوجي تصاحب حالة التهدم هذه.
وللوهلة الأولى يبدو لمن يرى المشهد ان شيطان الثورات المضادة قد نجح, فهاهو يضرب كل مناطق الثورات بمطرقة تحيل كل ما تلمسه إلى أنقاض. ومع ان مطرقة الثورات المضادة نجحت ظاهرياً في تحطيم كل شيء, إلا أنها اصبحت عاجزة عن الاستمرار ويمكننا القول أن الثورات المضادة دفعت ثمناً باهظاً في جولتها الأولى التي استمرت عدة سنوات حتى الآن.
نجحت الأنظمة في وقف مد التغيير ولكنها انكشفت تماماً امام الشعوب. ولو كانت الأنظمة نجحت في إخماد الثورات, لما احتاج بشار إلى الألاعيب الدعائية من عينة زيارة منزل أحدهم لالتقاط الصور والايحاء بوجود شعبية ولما احتاج الانقلاب في مصر إلى افتتاح خطوط انتاج الجمبري !
الحقيقة أنها بقدر ما اصيبت الثورات بالارهاق واصبحت غير قادرة على الفعل (ولو مؤقتاً) فقد اصيبت الأنظمة هي الأخرى بالانهاك والحديث هنا ليس على قدرة تلك الأنظمة في فرض ارادتها على أرض الواقع, فلابد أنها تحتفظ ببقايا شكل الدولة وتمارس سلطاتها فعلياً بما تبقى لها من مؤسسات, بل الحديث هنا على قدرة تلك الأنظمة على الاستمرار في التظاهر بالاستقرار.
لقد استنفذت الأنظمة مخزونها القمعي خلال السنوات الماضية في محاولة تحجيم موجات التغيير وشل حركتها ولم تنجح سوى في محاصرة الجانب المادي للرغبة في التغيير, بل أننا إذا نظرنا إلى الحالة السورية, لوجدنا أن النظام نفسه اسُتهلك واستنفذت أجهزته واصبح عليه ان يستدعي حلفاءه الاقليميين بتدرج وكأنما يغوص في مستنقع من الرمال المتحركة ينزلق إليه رويداً, فبدأ بحزب الله ثم بإيران وأخيراً روسيا, وهي خطوط دفاعية انهار كل واحد منها تلو الآخر مما تطلب الانتقال لما يليه, وهي كلها خطوط لم تفلح في وقف انهيار النظام السوري.
وهو انهيار بلغ درجات عالية من التردي لم تفلح معها كل جهود النظام الدعائية, فصورة الضابط الروسي الذي يبعد بشار الأسد إلى الخلف ويمنعه من الاقتراب ريثما يلقي بوتين كلمته في قاعدة حميميم العسكرية التي تمثل قمة هرم السيادة الذي من المفترض أن يمثله بشار (بحسب ما يقولونه للشعوب) كشفت بصورة فجة ما كان يدور في الغرف المغلقة لعقود وأن النظام السوري مجرد تابع.
اللطيف أن هذه المشاهد لم يكن من الممكن أن تدور بخلد أشرس المطالبين بـ (الاستقلال) عن الدولة العثمانية منذ مائة عام, ولم يكن بإمكان أي منهم تصور أن أحفاده سيدفعون تلك الضريبة الباهظة لنيل استقلالهم من الاستقلال المزعوم الذي ظنه ونادى به.
وفي مصر يمكن القول أن نظام العسكر والذي ظن أنه جدد دماءه بانقلاب 2013, اصبح بحاجة إلى ألعاب الحواة لاقناع الجمهور العازف عن المشاركة الذي ملَّ كلَّ شيء, بأن يشارك في مسرحية الانتخابات بينما هو لم يقدم لهم سوى زيادات في الأسعار وتردِ في الأوضاع الأمنية.
وربما كان الجانب الايجابي الوحيد للثورات المضادة هو انها كشفت حقيقة تلك الأنظمة