قضايا وآراء

فقدان المناعة الفلسطينية

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

في الأيام الماضية، أطلق تحذير بأن المصالحة الفلسطينية تنهار، وكان أهم ما في هذا التحذير أنه جاء على لسان السيد يحيى السنوار، قائد حركة حماس في قطاع غزة، الذي يحلو للإعلام ترويجه بأنه الأب الروحي للمصالحة.

مقولة السنوار لم تأت بجديد، فقد صرح بما يعرفه الجميع، مع إضافة تعديل جوهري هو أن المصالحة لم تكن قبل ذلك مبنيةً على أسس تضمن بقاءها، فلم يكن متوقعاً استمرارها وتثبيتها في ضوء الشروط الراهنة.

حتى تنجح المصالحة في أي بلد، فلا بد من تحقق شرطين؛ الشرط الأول يتمثل في الإرادة الحرة لطرفي المصالحة، والشرط الآخر يتمثل في أن يشعر كل طرف بالحاجة إلى الطرف الآخر، وأن هذه المصالحة ستخدم مصالحه. وفي الحالة الفلسطينية فإن كلا الشرطين غير متحققين مع الأسف.

 

 

اشتداد الحصار على قطاع غزة والأزمة المالية الخانقة لحركة حماس؛ مدا في طغيان قادة السلطة


فأما الشرط الثاني، فإن اشتداد الحصار على قطاع غزة والأزمة المالية الخانقة لحركة حماس؛ مدا في طغيان قادة السلطة، فتعاملوا مع المصالحة على أنها إقصاء وإحلال، لا على أنها شراكة وكلمة سواء. وهذا ما بدا واضحاً في تصريحات المسؤولين في السلطة، مثل حديثهم عن طرد الموظفين في عهد حكومة حماس، أو تسليم سلاح المقاومة، أو التمكين الكامل. ولو أن هذه المصالحة تمت في عهد الرئيس المصري محمد مرسي - على سبيل المثال - لكانت حركة حماس في موقف تفاوضي أقوى؛ لأنها كانت تمتلك في ذلك الوقت مساحةً للمناورة وشعوراً بالاستغناء.

أما عن الإرادة الحرة، وهي موضع تركيز هذا المقال، فإن بنية السلطة الفلسطينية تجعل منها سلطةً هشةً فاقدةً للمناعة الوطنية والقرار المستقل. فهذه السلطة مرتهنة مالياً وأمنياً وسياسياً بشكل كامل؛ لأطراف خارجية لا تنحاز إلى الحقوق الفلسطينية، وهو ما يسمح لدولة الاحتلال وأمريكا والدول المانحة وبعض الأنظمة العربية؛ بالتأثير على مواقفها السياسية بسهولة، مما يفقد الموقف الفلسطيني الرسمي صلابته وقدرته على الصمود.

اقتصادياً، فإن دولة الاحتلال هي التي تجبي أموال الضرائب والجمارك على السلع والخدمات الصادرة والواردة من وإلى فلسطين، وذلك بناءً على بروتوكول باريس الاقتصادي الملحق باتفاق أوسلو.. هذا الواقع أتاح لدولة الاحتلال؛ تحويل هذه الأموال الفلسطينية إلى أداة ابتزاز للسلطة، عبر مقايضة المال الفلسطيني بالنشاط السياسي للسلطة. وقد حدث أن أخرت دولة الاحتلال الإفراج عن أموال الضرائب عدة أشهر؛ عقاباً للسلطة على نشاطها في الأمم المتحدة.

يضاف إلى أموال الضرائب المسماة بـ"المقاصة"؛ أن قوام اقتصاد السلطة هو المعونات الأجنبية، ولا يوجد اقتصاد وطني إنتاجي، وهو ما يضعف مناعة الموقف الفلسطيني الرسمي، ويحول بينه وبين اتخاذ مواقف قوية تعبر عن نبض الشعب. 

أمنياً، فإن جيش الاحتلال هو الذي يتحكم في معابر وحواجز الضفة المحتلة، فلا يستطيع أي مسؤول فلسطيني، بمن فيهم رئيس السلطة، الحركة إلا بتنسيق مع دولة الاحتلال. أما الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فهي مرتبطة وظيفياً بالمهمة التي أنشئت من أجلها، وهي التنسيق الأمني، ولا يمكن للأجهزة الأمنية في الضفة التخلي عن هذه المهمة أياً كانت الأحوال السياسية؛ لأن هذه الوظيفة هي مبرر بقاء السلطة واستمرار تمويلها.

 

 

 

وجود الاحتلال في مدن الضفة يمنحه ورقة تدخل إضافية في الحياة السياسية الفلسطينية



كما أن وجود الاحتلال في مدن الضفة يمنحه ورقة تدخل إضافية في الحياة السياسية الفلسطينية، عبر سياسة الاعتقال التي يوظفها سياسياً في تغييب أي شخصية يستشعر منها بوادر خطر في تغيير المعادلة الراهنة، مثلما فعل باستمرار اعتقال مروان البرغوثي كي لا ينافس على رئاسة السلطة ويعيد إحياء نهج ياسر عرفات، أو اعتقال القادة الفاعلين في الفصائل الفلسطينية، مثل حسن يوسف من حركة حماس، وخضر عدنان من حركة الجهاد الإسلامي، وخالدة جرار من الجبهة الشعبية.

ثمة سبب رئيس لضعف المناعة الفلسطينية، وهو غياب الديمقراطية الذي يعني تحييد قدرة الشعب على التأثير في القرار السياسي. فالرئيس الذي لا يستمد شرعيته من الشعب ومؤسساته المنتخبة وقواه المدنية الفاعلة، ويأمن المحاسبة، لن يبالي برأي الشعب، وسينحاز إلى القوى الخارجية التي تملك إبقاءه أو عزله. وفي هذا السياق، يروى أن مقرباً من محمود عباس حذره من المشاركة في جنازة رئيس دولة الاحتلال السابق شيمون بيريز؛ لأن الشارع الفلسطيني محتقن، فرد عليه عباس: "خليه يحتقن براحته".

 

الواقع غير الديمقراطي أنتج شبكةً من أصحاب المصالح والنفوذ في السلطة ممن يرهنون مواقفهم السياسية بمصالحهم الذاتية ومشاريعهم الخاصة

هذا الواقع غير الديمقراطي أنتج شبكةً من أصحاب المصالح والنفوذ في السلطة ممن يرهنون مواقفهم السياسية بمصالحهم الذاتية ومشاريعهم الخاصة، وليس بالاعتبارات الوطنية، وهو ما جعل تعاملهم السياسي قائماً على منطق التجارة والأرباح.

 


في الكفة الأخرى، فإن حركة حماس، ونظراً لصلابة بنائها الأيديولوجي، تبدو أقل عرضةً لاختراق مناعتها الداخلية، لكنها لم تسلم تماماً، فالموقع الجغرافي لقطاع غزة الذي يمثل مركز ثقل هذه الحركة قلص خياراتها في المناورة، وأضعف مناعتها إزاء الضغوط الإقليمية، خاصةً من مصر التي تمثل شريان الحياة الوحيد الذي يصل قطاع غزة بالعالم الخارجي.

 

الشخصية الأيديولوجية لحركة حماس؛ جعلت منها حائط صد لكثير من مكونات المجتمع الفلسطيني، بدل أن تكون عنصر جذب


كذلك فإن الشخصية الأيديولوجية لحركة حماس؛ جعلت منها حائط صد لكثير من مكونات المجتمع الفلسطيني، بدل أن تكون عنصر جذب، وهو ما أحاطها بعزلة منعتها من التمدد الطبيعي في المجتمع، وتشكيل حالة وطنية فاعلة قادرة على التأثير. وللتدليل على هذه الفكرة، فإن كثيراً من المواقف التي تطرحها حماس تحسب بأنها في إطار المناكفات السياسية بينها وبين فتح، حتى وإن احتوت هذه المواقف على عناصر إيجابية، مثل دعوتها لإسقاط أوسلو أو لتأجيج الانتفاضة في الضفة. وبذلك لم تعد حركة حماس قادرةً على تقديم بديل حيوي فاعل بعد فشل السلطة؛ يتمدد بانسيابية في العقل والوجدان الفلسطيني، وفي الساحات الدولية، ويكتسب مساحات للضغط والتأثير؛ لأنها أحاطت نفسها بعزلة الجغرافيا في قطاع غزة وعزلة الأيديولوجيا.

 

 

المخرج من الأزمة يكون بتأسيس تيار شعبي جامع لكل مكونات الطيف الفلسطيني؛ يقيم بنيانه على مجموعة من المبادئ السياسية والحقوقية الواضحة


هذه هي عناصر أزمة المشروع الوطني الفلسطيني.. هناك مشروع السلطة الذي أثبت فشله واستنفد زمانه، لكنه يستمد بقاءه من عوامل الارتهان وفقدان المناعة في بنيته التي تمنعه من الإقدام على خطوات جريئة ومراجعة مسار،ه وتبقيه أسير العجز والتكيف السلبي. وهناك في المقابل؛ مشروع المقاومة الذي لم يمتلك الديناميكية الفكرية والسياسية والحركية القادرة على التقدم لقيادة الشعب الفلسطيني وإخراج الحالة الفلسطينية من ورطة أوسلو وملحقاتها. وبين خياري المقاومة والتفاوض تعطلت القوى الشعبية الحية القادرة على التأثير، وصغر حجم الوطن في فصائله، وصغرت هذه الفصائل في طبقات متنفذة من أصحاب المصالح، فغدا المشروع الوطني مشروع انتفاع لفئة قليلة من المتنفذين هم الذين يوجهون السياسات وفق أهوائهم دون خوف من رادع شعبي؛ لأن قوى الشعب معطلةً، وثقافة السلبية وفقدان المبادرة والتحزب الأعمى هي السائدة..

لعل المخرج من هذه الأزمة يكون بتأسيس تيار شعبي جامع لكل مكونات الطيف الفلسطيني؛ يقيم بنيانه على مجموعة من المبادئ السياسية والحقوقية الواضحة، على غرار وثيقة الحرية في جنوب أفريقيا، ويناضل في اتجاه تعزيز حضور قوى المجتمع المدني وتصحيح التمثيل الفلسطيني ليكون ديمقراطياً، وإحياء الثقافة الوطنية الجامعة بدل الثقافة الحزبية الضيقة. فإذا حضر الشعب وقويت قدرته التمثيلية وتمكن من محاسبة قادته، تصلب الموقف الوطني واكتسب مناعةً من الاختراق.

 

التعليقات (3)
Mofg Rashd
الجمعة، 29-12-2017 05:01 م
الفلسطينيون يتصرفون وكان مشكلتهم هي من الكماليات.بسبب ان عدد من الدول العربيه احتضنتهم وبعد زمن نسوا الوطن وأصبحوا يناكفوا اصاحب الأرض الذين استضافوهم. وغير ذلك من التصرفات التي جعلت من المضيفين ان يضيقوا ذرعا بهم. وكذلك ميلهم للترف المزيف.وباختصار لم ينجحوا بإقامة علاقات عامه جيده مع أصحاب الأوطان الذين استضافوهم .استمروا بذلك ويحلمون ان الأمور ستمضي هكذا بلا نهايه .هذه هي الحقيقه المره التي سوف يستيقضون عليها يوما ما.ونتمنى ان يصحوا قبل ان يفوت الاوان.
أحمد أبو رتيمة
الخميس، 28-12-2017 03:31 م
نعم أخت غدير أنا ذكرت بخصوص حالة حركة حماس أن هناك عوامل خارجية تتمثل في قهر الجغرافيا واضطرارها إلى بوابة مصر التي لا ترى فيها صديقاً، لكن هذا لا ينفي وجود عوامل ذاتية أيضاً تتعلق بمنظومة أفكار الحركة ونمط التربية التي يتلقاها أبناؤها والتي تقيم جداراً عازلاَ بينهم وبين المجتمع. الشعب في عمومه يميل إلى المبادئ البسيطة والخطاب السهل، وهذا سر نجاح فتح في الماضي، أكثر من الخطاب الأيديولوجي..
غدير عواد
الخميس، 28-12-2017 11:13 ص
لكن أ. أحمد و لأجل الإنصاف ؛ ألم يكن المانع من تمدد حركة حماس داخل المجتمع الفلسطيني و أن تكون "عنصر جذب" كما وصفت ، أسباب خارجية في الغالب الأعم ؟! بخلاف ما هو عليه عباس حيث أنه بإمكانه إلغاء التنسيق الأمني خاصةً و أن الفرص أتته تباعًا؟؟