مقالات مختارة

الرهانات الفلسطينية في مواجهة مستجدات التحدي

صالح عوض
1300x600
1300x600

من الصعب فهم التصعيد في الموقف الفلسطيني الرسمي الأخير تجاه الإدارة الأمريكية.. ومن غير الجدي اعتبار أنه جاء على أرضية اكتشاف طبيعة الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية في اللحظة الأخيرة كما قال الرئيس الفلسطيني: "كنا مخدوعين ومغشوشين".. إذ ما الذي سيغيره اكتشاف أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت شريكا في وعد بلفور؟ فحتى لو لم تكن كذلك، فهل يشفع لها أنها تدعم الإرهاب الصهيوني وتمده بكل ضمانات البقاء والهيمنة؟


لابد من الاقتراب لفهم التطورات العميقة المرتبطة مع التغيرات في موازين القوى وإدارة صراع دوائر النفوذ في ظل تنامي قوة أطراف دولية، وإعادة تشكل علاقات دولية على قواعد وقائع الصراع الدامي في بلاد الشام والعراق.. فلا بد ونحن نتجه إلى فهم ذلك من التأكيد أن أمريكا تأخذ على عاتقها منذ عشرات السنين حماية وجود الكيان وتكسير كل القوى والدول المحتمل تصادمها معه.. والموقف الأمريكي هذا له علاقة عضوية بمصالح أمريكا الحيوية والاستراتيجية، التي يؤديها الكيان الصهيوني في المنطقة وبما يتعدى المنطقة، ولذا فإن الموقف الأمريكي الآن وسابقا من الكيان الصهيوني لم يأت من باب المودة والاقتناع، بل من باب حراسة المصالح الاستراتيجية، لهذا لابد من إعادة التذكير دوما بأن وجود هذا الكيان ارتبط بقرار صناع السياسات والوقائع في الغرب، وفي أمريكا بشكل أساسي ودعمهم غير المحدود من أجل وظيفة استعمارية أمنية وسياسية.

 

هنا يفتح الباب لتدفق الأسئلة عن الموقف الفلسطيني الرسمي الذي اتخذ لغة القطع برفض الوساطة الأمريكية: فما هي رهانات الفلسطينيين؟ ومن ذا الذي ينوب عن الولايات المتحدة في ضبط إيقاع العملية السياسية في المنطقة؟ وإلى أي مدى تقبل الإدارة الأمريكية هذا الموقف وتتعامل معه؟ وما هي ضمانات الاستبدال؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار هذه المغامرة ناجحة؟ وما هو موقف الصهاينة في الموضوع؟

 

هنا من الضروري أن نعرض بسرعة للواقع الذي نعيشه.. فمنذ 14 سنة انهمكت الإدارة الأمريكية في تنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة لإعادة رسم خريطة المنطقة السياسية بإنشاء كيانات سياسية جديدة على معطيات عرقية وطائفية، وكانت البداية العراق، حيث حاولت الإدارة الأمريكية تكسير كل عناصر الوحدة ومؤسساتها داخل البلد الواحد، وتدمير كل رموز طمأنة المجموع لمستقبل واحد، ووجدت الإدارات الأمريكية المتتابعة أن تكسير العراق خطوة كبيرة وأساسية لتقسيم المنطقة؛ فبعد عمليات القتل والتخريب الواسع على أكثر من صعيد وليس أقلها خطورة تدمير الآثار، سعت الخطة الأمريكية لترسيم وضع دستوري وقانوني لجعل التقسيم تحصيل حاصل.

 

سكتت روسيا عن هذا التدخل الأمريكي في العراق على أساس رغبتها الجامحة في تورط الأمريكان في العراق، في الحين الذي بدأ الروس يتدبرونه ويدركون من خلال التجربة أن أسوأ حرب هي تلك التي يخوضها جيش غازي لشعب يمتلك إرادة القتال، رغم أن الشعب توزع على ولاءات كادت تُسقط قوة دفع المقاومة الواسعة.. أدركت روسيا أن الانتصار الراهن للغزو الأمريكي على العراق من شأنه إغراء الإدارة الأمريكية لتتورط في مزيد من الساحات الإقليمية، إلا أن مجيء أوباما أنقذ أمريكا جزئيا، وورط المنطقة كلها في حروب سرطانية.. وكاد التفسخ في المنطقة يتقرر وحينذاك تقدمت روسيا بعد أن كادت مواقعها تتبخر في المنطقة.. تقدمت بقوة السلاح لتفرض وقائع جديدة فتوقف انهيار الدولة الوطنية.. فكان تدخل روسيا في المنطقة عن طريق سوريا الفرصة السانحة والتاريخية لها.. ولم يتم التحرك نحو الدخول إلا بعد أن تم التفاهم الروسي الإسرائيلي حول الغطاء الجوي الروسي لسوريا، الذي يشمل طلعات جوية إسرائيلية من حين لآخر لا يمكن تخيل أنها تتم دون علم الروس ودون رضاهم ودون اتفاقيات معهم.

 

من الواضح أن الفوضى التي تجتاح المنطقة وإرهاصات تشكل كيانات جديدة، لا يمكن أن تكون مبعث أمن واستقرار للكيان الصهيوني الذي يرضيه تدميرها، إلا أنه يرى أن التفلت الحاصل فيه يرسل بشظاياه للكيان.. من هنا تصبح روسيا أكثر أمانا لإسرائيل وضامنا حقيقيا لاستقرارها، وهذا هو المنعطف الكبير الذي ينبغي ملاحظته بدقة، كما ينبغي ملاحظة أن الإسرائيليين لا يمكن أن يقبلوا القيام بالوظيفة الغربية في المنطقة بلا تعديلات؛ فالصهاينة يدركون أكثر من الأمريكان حساسية المنطقة وهم مسكونون بالقلق الوجودي أكثر من الحسابات الوظيفية.. ويدركون أنهم هم من سيدفع الثمن المباشر.. وجملة الأمر أن الإسرائيليين غير مطمئنين للفوضى التي تديرها أمريكا في المنطقة.. وهنا تأتي علاقة إسرائيل مع روسيا في غاية الأهمية لتنقذ إسرائيل من عبث الأمريكان.
"من هنا كان الموقف الرسمي الفلسطيني وهو يقرأ كل هذه التطورات واضحا في رفضه اعتبار الولايات المتحدة شريكا في العملية السياسية أو وسيطا، وأنه لابد من البحث عن وسطاء آخرين يشرفون على العملية.. ومن الواضح أن الموقف الفلسطيني تلقى إشارات مهمة من الروس والأوروبيين للاعتماد عليهم في التوسط والإشراف على العملية السياسية."

 

في هذه الأجواء بعد أن سكن القلق الأمريكي المنطقة ولم يعد هناك شيء قابل للاستقرار.. بعد هذا جاء قرار ترمب المسرحي حول القدس.. هنا أدرك اليهود بحسهم التاريخي أنهم مقبلون على مذابح وصعوبات شديدة، رغم البهرجة الكاذبة التي يتمظهر بها نتنياهو، فأصبح اللجوء إلى الروس مهمّا وذا أولوية.

 

من هنا كان الموقف الرسمي الفلسطيني وهو يقرأ كل هذه التطورات واضحا في رفضه اعتبار الولايات المتحدة شريكا في العملية السياسية أو وسيطا، وأنه لابد من البحث عن وسطاء آخرين يشرفون على العملية.. ومن الواضح أن الموقف الفلسطيني تلقى إشارات مهمة من الروس والأوروبيين للاعتماد عليهم في التوسط والإشراف على العملية السياسية. ومن المؤكد أن الفلسطينيين قرؤوا الموقف الروسي في الإقليم وجدية الروس في وقوفهم ضد التغول الأمريكي، ولابد من الانتباه إلى أن الرئيس الفلسطيني يتحرك في العملية السياسية مسترشدا بنصائح روسية عميقة.. هذا في حين حققت السلطة الفلسطينية اعترافات واسعة بالدولة الفلسطينية في المجمعات الدولية، كما حققت غالبية عظمى في الرأي العام الدولي ممثلا بالجمعية العامة في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المنبثقة عنها.                                                                                                                                                                                   
خسرت الإدارة الأمريكية دورها السياسي في العملية السياسية بين الفلسطينيين والصهاينة، وخسرت بذلك مكانة إقليمية ودولية بشكل صارخ لن تعوِّضها بسهولة.. وبرفض الفلسطينيين يصبح العمل السياسي للتسوية متحررا من هيمنة الأمريكان، وفي حيز دول أخرى تنشط الآن على المستوى الإقليمي وهي تحقق الأمن لإسرائيل، وتوفر شروط البقاء لها أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية التي تتخبط خبط عشواء.

 

الوقت ليس لصالح الكيان الصهيوني وهو يمر سريعا ما لم يتمكن الكيان الصهيوني من تسييج نفسه بحصول الفلسطينيين على دولة بحدود 1967 عاصمتها القدس وفتح النقاش حول القضايا الأساسية لاسيما العودة.. إن تحرك الروس في هذه المرحلة على أكثر من جبهة، يمنحهم القدرة على تحقيق الأمن الإقليمي بعد أن عبثت المخابرات الأمريكية والأجهزة الأمريكية باستقرار المنطقة وسيادتها.


الرهان السياسي الفلسطيني الآن يقوم على البحث عن وسطاء مع الكيان الصهيوني غير الولايات المتحدة، ويبدو أن الروس والأوروبيين سيمثلون حبل التواصل.. طبعا الرسميون الفلسطينيون يدركون أن تحرير الملف من يد الولايات المتحدة في حدا ذاته انتصار كبير، واللجوء إلى روسيا في النهاية هو خطوة أكيد نحو عملية سياسية بمنأى عن الانحياز الأمريكي الصارخ. 

 

لن يجدي نفعا ذلك كله إذا نشبت الحرب بين حزب الله وإسرائيل؛ لأن هذا من شأنه إدخال معاملات جديدة قد تُدخل الكيان الصهيوني في دوامة الفوضى الخلاقة، وهنا تأتي أهمية الموقف الروسي صاحب العلاقات الاستراتيجية مع إيران.. تولانا الله برحمته.

 

الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)