هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في عام 1920 قام المجلس الأعلى للحلفاء، أي المنتصرين، في الحرب العالمية الأولى بعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا لاقتسام تركة الرجل المريض، الذي خسر الحرب: السلطنة العثمانية. ومما ترك الرجل المريض: بلاد الشام، أي العراق وسورية الكبرى.
عقد هذا المؤتمر على عجالة برعاية أكبر دولتين استعماريتين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، إثر فشل مؤتمر باريس، ورفض الولايات المتحدة فرض هيمنة الدولتين على منطقة الشرق الأوسط، ومقاومة العرب لسياسة الهيمنة الأنكلو فرنسية، والمطالبة بالاستقلال التام وتنصيب الملك فيصل ملكا على سورية.
وقد استغلت الدولتان غياب الولايات المتحدة بعودة الرئيس وودرو ويلسون إلى واشنطن، واتخاذ سياسة العزلة الاطلسية لعقد هذا المؤتمر، لتمكين الدولتين الاستعماريتين من تنفيذ مخططاتهما الاستعمارية التي بدأت مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
في هذا المؤتمر بحث المؤتمرون نتائج معاهدة سيفر، التي حددت مستقبل سورية والعراق. والمستقبل الذي رسم بالمقص على الخريطة الشرق أوسطية، قسّم سورية الكبرى إلى أربعة أقسام: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وتم وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.
بعد أقل من شهر قام السوريون بعقد مؤتمرهم لرفض مقررات مؤتمر سان ريمو، وإعلان استقلال سورية الكبرى، ورفض معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور. في الرابع والعشرين من يوليو من العام نفسه غزا الجيش الفرنسي سورية بقيادة الجنرال هنري غورو فتصدى له الجيش السوري بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون، حيث استشهد العظمة واستطاع الجيش الفرنسي غزو سورية والسيطرة عليها، وقام بتقسيمها إلى خمس مناطق على أساس طائفي. على إثرها اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان الأطرش في جبل الدروز، وحسن الخراط في دمشق وغوطتها، وصالح العلي في جبال العلويين، وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية (هذه الثورة أكدت على وحدة الشعب السوري بكل مكوناته) حدث كل ذلك أمام نظر الولايات المتحدة الامريكية وعصبة الأمم. ولم يتمكن السوريون من نيل استقلالهم إلا عام 1946 بعد مخاض عسير وانتفاضات متتابعة ضد المحتل الفرنسي.
اليوم وبعد قرن كامل تقريبا يعيد التاريخ نفسه مع تغير القوى الفاعلة والغازية، فالشعب السوري في ثورة ضد نظام حكم طائفي تسلطي أسري، يجثم فوق صدره منذ أربعة عقود ونيف، وكاد النظام الأسدي يتهاوى تحت ضربات المعارضة قبل أن يستنجد الوريث بشار الاسد بحليفه الايراني أولا، الذي سرعان ما أسعفه بميليشيات حزب الله وميليشيات طائفية لبنانية وافغانية وباكستانية وايرانية ثم عراقية، ومع كل هذه الحشود الميليشياوية الطائفية التي حاولت وأد الثورة بارتكابها أبشع المجازر بحق الشعب السوري، لم تتمكن من إخماد الثورة الشعبية التي كادت أن تنتصر على الجميع وتسقط نظام الاستبداد.ولم يعد أمام الوريث سوى الاستنجاد بالحليف الروسي، وبعد حوالي سنتين من تدخل روسيا العسكري، خاصة بسلاحه الجوي ومختلف اسلحته الفتاكة التي قامت بتدمير المدن السورية وقتل آلاف المدنيين تحت مسمى «محاربة الإرهاب».
استطاعت روسيا فرض نفسها كدولة محتلة تقود نظاما فاشلا مستسلما لإملاءاتها، تغزو سورية ليس لإنقاذ نظام يقتل شعبه فحسب، بل للهيمنة على سورية والسيطرة على قرارها السياسي، في غياب تام للولايات المتحدة الامريكية، بعد اتفاق سري بين دونالد ترامب الذي تخلى عن الدور الامريكي في الشرق الأوسط، وفلاديمير بوتين صاحب الشهية الكبيرة لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من سورية الجريحة، وقد رافقت العملية العسكرية عملية سياسية موازية بدأت باجتماعات أستانة التي ضمت وفدا معارضا من الفصائل المقاتلة، ووفدا من نظام الأسد بالتنسيق مع ستيفان ديمستورا، والتي تمخضت عن اتفاقات ما سمي «بمناطق خفض التوتر»، التي شملت اربع مناطق: ادلب، درعا، حمص، الغوطة الشرقية، وهذه الاتفاقات كانت حبرا على ورق، هدفها المعلن شبه وقف لإطلاق النار، وهدفها المضمر هو كسب الوقت لتحقيق انتصارات جديدة في المناطق المستعصية حتى الآن، فالغارات الأسدية ـ الروسية بقيت مستمرة تحصد عشرات الضحايا يوميا، بعد سبع جولات من هذه المحادثات، حيث دعت روسيا في ختام الجولة السابعة إلى مؤتمر حوار وطني في سوتشي، إلا أن الائتلاف الوطني وهيئة اركان الجيش السوري الحر رفضا المشاركة في المؤتمر، الذي يعتبر محاولة للالتفاف على مقررات محادثات جنيف.
وفي الثاني والعشرين من نوفمبر عقد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية التي شملت منصة القاهرة ومنصة موسكو بعد استقالة الرئيس السابق للهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب ومجموعة من الهيئة، بعد تسريبات عن ضغوط سعودية للقبول بفترة انتقالية لا تتم فيها المطالبة برحيل بشار الأسد، لكن في البيان الختامي للهيئة العليا للمفاوضات أكدت على تمسكها برحيل الأسد وزمرته كشرط اساسي لبدء المرحلة الانتقالية.
بالأمس وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة إلى سورية وحط في قاعدة حميميم الروسية التي باتت أرضا روسية، ودعي بشار الأسد لحضور مراسم تهنئة الجنود الروس كشاهد على انتصارهم الأسطوري على « الإرهاب» بعد قتل آلاف السوريين وتدمير مدنهم من قبل القاذفات السورية، وتجربة كل أسلحة الترسانة الروسية في مشافيهم وأسواقهم ومدارسهم، ولم يسمح له حتى السير بمحاذاة الرئيس المنتصر، بما يعني أن سورية لم تعد ملكا لآل الأسد فملكيتها اليوم تتبع للمنتصر ككل المنتصرين في الحروب. فالأسد أدخل الدب الروسي إلى كرمه ولن يخرج منه، وفي الوقت الذي يعلن فيه بوتين انسحاب قواته «اللفظي» يقوم بتوسيع قاعدة طرطوس البحرية، فهذه القاعدة حلم بها قياصرة روسيا قبله للوصول إلى المياه الدافئة ولن يخرج منها. هذا من ناحية الشق العسكري، أما الشق السياسي الذي يحضره المطبخ الروسي في سوتشي، تحت مسمى « الحوار الوطني السوري» الذي فرض فيه منصة موسكو، ومنصة القاهرة، ودعوة مئات الأشخاص الذين لا يمثلون الشعب السوري، كي يتم إغراق المعارضة، والالتفاف على محادثات جنيف وتهميشها، وتعويم بشار الأسد، وشرعنة الانتداب الجديد على سورية بعد مئة سنة تقريبا من الانتداب الفرنسي: الانتداب الروسي.
القدس العربي