خطر على بالي وأنا أحكّم أحد البحوث حول الحكم الراشد حديثا عن الدولة وحقيقتها وجوهر وظيفتها، الدولة حينما تخدم الناس والدولة حينما تقع في أسر نظام استبدادي فاشي، فيصير مفهوما سيساويا وليس المفهوم السياسي المتعارف عليه، إذ تحتل المقولات المرتبطة بالدولة مكانة مركزية في خطاب العسكر الذي يمثله المنقلب السيسي ومن لف لفه وسار في ركابه وانتمى إلى جوقة إعلام إ فكه؛ إذ ينتقل هذا الخطاب بين ضرورات الحفاظ على الدولة في إطار إدراك "دولتي" يقلصها في مؤسسات بعينها، ووفق هيئة محددة،تبرز ممارستها الخادمة لسلطات الاستبداد، في فترة تزيد على ستين عامًا، بوصفها عملًا وطنيًا، ومنها الجيش؛ ليس الجيش بصفته تعبيرًا شائعًا يلخص مكون المؤسسة.
العسكرية، وبما نفهمه من طبيعة لهذه المؤسسة في بنية السلطة التنفيذية، ومسؤولياته الدفاعية الحافظة لكيان الدولة،وإنّما بصفته مقدسًا مؤسسيًا، يستحيل دولة داخل الدولة، وإن شئنا الدقة؛ فهي دولة فوق الدولة. تخالط هذا الخطاب مقولات الأمن القومي الأشدّ ابتذالًا وتعمية على حقيقة التهديدات التي يجري الحديث المسؤول عن الأمن القومي في ضوئها.
ومع هذه تبرز مقولات غايتها التنصل من فشل الدولة،فيما تبرز أخرى تبشر خلاف ذلك بدولة منشودة يزعم أنّها ستكون"قد الدنيا".
مقولة "عمود الخيمة": على الرغم من هذا التفاوت والتنوع في تجليات هذا الخطاب، وفي الأحوال كلّها، فإن نظم هذا الخطاب على صعيد واحد، والقيام بتشبيكه، إنما يصب في النهاية في مصلحة استدامة حكم العسكر. ثمّ إنّ الحديث عن حفاظ الدولة يجعل الجيش في صدر مؤسساتها تلك التي لا يجب الاقتراب منها، فتمثّل مؤسسات داعمة له ولتمكين سلطانه.
مقولة "المشكلات موروثة": حينما نتحدث عن الإنجاز، فإن مقولات أخرى يمكن أن تقفز إلى السطح من إحالة على أن المشكلات ليست وليدة اللحظة ولكنها قديمة، ولا يمكن حلُّ هذه المشكلات عن طريق عصا موسى بين عشية وضحاها. وأخطر من ذلك، فإنّ هذا الخطاب قد يطالب الناس بأن يُطلُّوا على الدولة على نحو صحيح، وأنها شبه دولة لا دولة حقيقية. فإذا تحدثت عن الإنجاز صار الأمر قائمًا على الترويج لإنجازات وهمية أو الترويج للأمر إذا تعلّق بالحفاظ على الدولة؛لشكلها ولمؤسساتها،وسيكون هذا هو الإنجاز الأعظم والإنجاز الكبير.
مقولة "الهيبة": يتحرك كل هذا الخطاب في سياقات "دولتية" وفي محاضن أذرع الدولتية؛ سواء أكانت أذرعًا إعلامية أم ثقافية أم فنية أم دينية. وتدخل تلك "الإسنادات" كلّها في الترويج لهذه الحالة على نحو خطر، لا يقيم لوظائف الدولة وزنًا، ويتحدث ليل نهار عن هيبة الدولة،من دون أن يتحدث عن خيبتها.
أمّا عن مفهوم الجيش في خطاب العسكر والذي يكون للأسف بالخصم من مفهوم الدولة المدنية، فإنّه يروج بأنّه الحامي والمنقذ والمخلص والكفء، وغيره فاشلون، وأنّه قادر على إدارة الأمور في إطار الاستغناء عن الشعب تمامًا.
مقولة "اللي مش عجبوا يغور":والتي قيلت في قنوات إعلام العسكر، وتكررت على لسان أبرز الإعلاميين المعبرين عن هذا الخطاب، على نحو أقرب إلى الاتّفاق،وفي تتابع زمني قصير، تكملها مقولة "خير أجناد الأرض"،إذ يبرز الجيش من قدسه،ليس بوصفه الدرع الحامي فحسب،وإنّما أيضًا ما يفعله هو الصواب وحده. جعل الجيش (قدس الأقداس) بعيدًا عن المساس بالسوء أو التطرق إليه بنقض، يكمله خطاب الاستغناء عن الشعب. فمقام المعصومية المؤسسية المُدّعى يجعل نقّاده محلًّا للتنكيل لدى نقدهم إياه، واستنادهم في ذلك إلى وقائع ومعلومات محددة، لا يعفيهم من التنكيل. فالنقد يساوي الخيانة لدى منتجي هذا الخطاب.
مقولة "إحنا بنصرف عليكم": من جملة الخطاب الأبوي التي يلجأ إليها في حال توسع دائرة المعارضة مقولة "إحنا بنصرف عليكم من 2011" حين أطلقها واحد ممّن يعبّرون عن الجيش،كان يحدد حياضه وحيازته وملكه بحدود الوطن بأسره،وأنّ الجميع واقع تحت طائلة حسابه،من خلال الإحالة على القضاء العسكري والمحاكم العسكرية إن خالفوا. تصوُّرات بعضها من بعض، تنتظم أيضًا على صعيد واحد فتجعل الجيش هو الحامي والراعي والمنقذ، ومن ثمّ كان قتله الأبرياء جزاء وقانونًا وحقًّا.
مقولة "لا يصحُّ بعد كل هذه السنين أن يأتي أحد ويسيطر على الجيش":هذهالعبارة التي وردت في حوار السيسي مع ياسر رزق، رئيس تحرير جريدة المصري اليوم في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، فكان يتهكّم فيها بجرأة على الرئيس مرسي في اتّخاذ قرار إقالة القيادات العسكرية السابقة، قائلًا: "ييجي (يأتي) أحد ويسيطر على المؤسسة(...) فيه احتمال يهدها من دون قصد حتى(...) أتصور أن عدم تقديرهم لرد فعل المؤسسة وحجمها هو الذي دفعهم لاتخاذ هذا القرار الخاص بالمجلس الأعلى الفائت(...) لو كانوا مدركين لوزن وقدرة المؤسسة لما اتّخذوا هذا القرار(...) غير مرسي على سبيل المثال (يقصد مبارك) كان يستغرق سنة في التفكير لاتخاذ قرار صلاة العيد مع الجيش من عدمه".
هذه واحدة ضمن سلسلة من مقولات تلخّص رؤية العسكريين للحاكم المدني أو المدنيين عمومًا، ولأنفسهم بصفتهم مؤسسة مستقلة ترفض الانصياع لأيّ سلطة مدنية.
مقولة "المؤسسة العسكرية تحتاج تحصينًا لمدة عشرة أعوام":عبارة وردت على لسان السيسي في الحوار السابق نفسه، يطالب فيها بتحصين وضع المؤسسة العسكرية في الدستور الذي تمّ تعديله من طرف لجنة معيّنة من قبله: "المؤسسة العسكرية تحتاج تحصينًا في الدستور لدورها خلال الفترة الماضية، وعلى الجميع أنْ يدرك أنّ هذا الدور سيظل له امتداد خلال خمس إلى عشر سنوات على الأقل، أيًّا كان الذي سيصل إلى الحكم، مدني، ليبرالي، ديني". وتلخّصُ هذه التصريحات ما يسعى إليه العسكريون منذ الثورة وحتى الآن، من محاولات تأمين وضعية الجيش، كمؤسسة مستقلّة فوق الدولة.
كما تشير التصريحات إلى حالة من حالات التوجُّس والخشية والحذر العام من المدنيين عمومًا، إلى درجة تجعل العسكريين يطلبون تحصين وضعهم لسنوات، تحسُّبًا لأيّ احتمال ينفذ منه مدنيّ إلى رأس السلطة التنفيذية، وهو ما تم في الدستور فعلًا، فقد تمّ النص على أنّ وزير الدفاع يعيّن بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني أن وزير الدفاع المعيّن صار فوق رأس السلطة التنفيذية المنتخب، وهو وضع دستوريّ شاذّ غير موجود في أيّ بلد في العالم، حتى البلاد التي كثرت فيها الانقلابات العسكرية في أفريقيا جنوب الصحراء وأميركا اللاتينية. وربما يشير هذا الأمر – أيضًا - إلى حالة من حالات الإحساس بخطورة ما تم في 3 تموز/ يوليو وما بعدها، بما يعني أنّ حالة الصراع مع المدنيين ستستمر لسنوات وفق تصوراتهم.
هذه هي مقالتنا الأولى في سلسلة المقالات تلك والتي توضح مقام الدولة عند الجيش ومقام الجيش في الدولة.