من أهم المبادئ والشروط التي يقوم عليها النظام الاستبدادي والتي لا يستوي صرحه إلا بها هي سلب كرامة الإنسان والمواطن في صيغة الفرد والجمع ثم تجميعها فقط في صورة الزعيم والقائد والملك والأمير والرئيس...لا نبالغ مطلقا إن قلنا إن انتزاع كرامة الإنسان هي الشرط الأساسي والركن الثابت المكين في البناء الاستبدادي العربي.
إهانة الإنسان جسديا عبر التعذيب والاختفاء والخطف والقتل والتهجير هي واحدة من صور دوس كرامة الإنسان وانتزاع ما به يكون الإنسان إنسانا. البطالة والفقر والتهميش ومدن الصفيح وأحياء القصدير وتبديد الثروات هي وجه آخر من وجوه إهانة الإنسان الذي كرمه الله من فوق سبع سماوات.
قد نحتاج مجلدات بكاملها حتى نستطيع تعداد الأوجه التي تفنن النظام الرسمي العربي عبرها في سحق الذات البشرية وتبديد كرامتها من أجل أن يقتل فيها كل توق إلى الحرية وكل قدرة على النهوض والمواجهة لأن الإذلال والتحقير والإهانة ليست إلا القيد الثقيل الذي يسمح بتكبيل المجتمعات وباستعبادها.
لم يخطئ من سمى ثورات الحرية الأخيرة بثورات الكرامة لأن من أشعل شرارتها لم يرض الإهانة والصفع على الوجه فأحرق نفسه وأشعل معها كل الحطب اليابس في بلاد العرب.
وفي سيدي بوزيد مهد الربيع العربي رفع المتظاهرون أهم شعارات الثورة العربية "يا نظام يا جبان...المواطن لا يهان"، ليس ربيع العرب ربيع الجياع ولا ربيع الايديولوجيا ولا ربيع الأحزاب إنه بلا منازع ربيع الإنسان بل إنه ربيع كرامة الإنسان.
في تونس مهد الإهانة ومهد الحركة التي رفعت الإهانة عبر شرارة الربيع لا يزال الهيكل الباقي من النظام القمعي يحاول إحياء نفسه وإحياء ثقافته وممارساته وإليكم واقعتان قصيرتان:
"في إحدى المدن الساحلية تخاصم عون أمن أي شرطي مع أحد المواطنين فتقدم الشرطي وصفع المواطن بكل عنف على وجهه، صاح المواطن: أنا محام. أجاب الشرطي: المعذرة ظننتك مواطنا".
الواقعة الثانية جدت منذ أيام في إحدى المدن الساحلية التونسية حيث شعر أحد المواطنين التونسيين بأنه ضحية عملية تحايل من أحد الفرق الترفيهية في عرض البحر واستشعر الخطر خاصة بعد أن تلقى تهديدا شفويا من الساهرين على الرحلة البحرية. كان الرجل يحمل الجنسية الكندية فاتصل برقم خاص في كندا مخصص للمواطنين في حالات الخطر.
فكانت المفاجأة أن تغيرت المعاملة فجأة خلال الرحلة ووجد في استقباله وفدا تونسيا رفيعا في الميناء عند العودة ليقدم له الاعتذار والتعويض لأنه يحمل جنسية أجنبية.
القصتان حقيقيتان وليستا من بناء الخيال وهما تعكسان بكل مرارة كيف يهان الإنسان في وطنه وعلى أرضه وكيف تحوله آلة النظام القمعي إلى كائن دون الحيوان. ألم يصف القذافي شعبه الثائر بالجرذان والحشرات والزواحف؟ ألم يستعمل بشار الأسد المبيدات الكيماوية ضد الأطفال والنساء والشيوخ في الغوطة؟ ألم تصرخ أم الطالب الإيطالي ريجيني متهمة النظام المصري بقتل ابنها: قتلوه كما لو كان مصريا؟ ألم يقم العسكر في مصر بحرق الناس في الشوارع كما لو كانوا أكداسا من نفايات والفضلات؟
على الضفة الأخرى من مزارع الموت العربية يُلغى الإنسان تماما من المعادلة فهو لا يعدو أن يكون رقما من الأرقام وهو لا يختلف بذلك عن ثروات الأبقار والماشية في بلاده حيث تضاهي الثروة البشرية الثروة الحيوانية. الفرد في منظومات الاستبداد العربية لا وجود له فهو لا ينتخب ولا يقرر مصيره ولا مصير أبنائه ولا مصير وطنه بل يولد ويعيش ويموت مفعولا به إن هو آثر السلامة والأمان.
أن يقتل النظام عشرة أو مائة أو ألف أو مائة ألف أو ملايين البشر فهذا عندنا اليوم سواء والنموذج السوري والعراقي غير بعيدين. الكارثة الكبرى هي أن الإنسان العربي نفسه لم يعد يعير لأعداد الموتى اهتماما وكأنه قدَر قُدّر له لا فكاك له منه ولا انعتاق.
لكنّ ثورات الربيع التي هزت عروش الطغاة وأسقطت منهم الكثيرين نجحت في استعادة بعض ولو ضئيل من كرامة الانسان العربي بأن أعلنت أنه لم يمت بعد وأن كرامته لم تدفن بل هو قادر على إسقاط أنظمة وتغيير معادلات. وليست كل المليارات التي تصرف هنا وهناك وكل الحروب والحرائق المشتعلة إلا محاولات يائسة من أجل إعادة أغلال العبودية لهذا الجبار الذي يكاد يفيق من غفوته. وليست داعش باعتبارها رأس الجريمة في المنطقة إلا أداة من أدوات تأديب الشعوب حتى لا تفكر مجددا في الانعتاق من أغلالها وفي التمرد على أسيادها.
الثابت الأكيد هو أن كرامة الإنسان التي يصنعها بحريته وانعتاقه من كل سلاسل الاستبداد والقمع ليست قابلة للإلغاء ولا للدفن مهما حاولت أنظمة الفساد والنهب العربية. إن استعادة كرامة الإنسان هي الحرب الحقيقية التي يجب على الفرد وعلى الجماعة أن تخوضها لأن معركة الكرامة هي المدخل الأساسي للتحرر وهي كذلك السلاح الذي سيحرر الأمة من كل قوى الاستعمار ووكلائه.