في كلمةٍ له مؤخرا، قال بشار الأسد إنّه لن يكون هناك تعاون أمني مع الدول الغربية ولن يتم السماح لا بفتح سفارات في دمشق ما لم تقم بقطع علاقاتها بشكل صريح وواضح مع الإرهاب. ولم ينس الأسد طبعا أن يشكر في كلمته الجهات التي وقفت إلى جانبه ودعمته مشيرا إلى دور روسيا وإيران والصين وحزب الله بالتحديد.
لقد حملت الكلمة نبرة تحدّ للغرب على الرغم من أنّ الأخير لم يتحد الأسد يوما، وإنما كان السبب الأساسي الذي منع الاطاحة به حتى اليوم. ظهور الأسد في هذه الوضعية هو مؤشر على أنّ صفقة بقائه أصبحت قاب قوسين أو أدنى، هذا إن لم تكن قد تمّت بالفعل مع المباركة السعودية الأخيرة.
حتى منتصف العام الماضي تقريباً، كانت هناك ثلاث دول ترفض بقاء الأسد فعليا في السلطة وهي تركيا وقطر والسعودية. وبالرغم من اختلال موازين القوى لصالح المعسكر الموالي للأسد لاسيما مع التفاهمات الأمريكية الروسية، بقيت هذه الدول ترفض ذلك. لكن سرعان ما قررت المملكة العربية السعودية حينها الابتعاد رويدا رويدا عن تركيا وقطر والاقتراب أكثر فأكثر من موقف الامارات ومصر، وقد شعر الجانب التركي بأنّه بات وحيدا وأنّه لم يعد لديه الكثير من الخيارات في الساحة السورية فقد كانت الميليشيات الكردية على وشك ابتلاع الشمال السوري بأكمله بدعم أمريكي وروسي.
مع نهاية العام 2016، كانت السعودية غائبة تماماً عن الملف السوري، وقد وضع هذا الأمر تركيا تحت ضغط شديد، فاتجهت الأخيرة إلى العمل على التقليل من خسائرها وانضمت إلى منصّة الأستانة وكانت لا تزال تأمل حينها أن يؤدي ذلك إلى التمهيد لعملية سياسية جدّية من خلال إبعاد الأسد انطلاقا من حاجة موسكو الملحّة إلى أنقرة في سوريا، وتنطلاقا كذلك من الحاجة إلى انخراط المعارضة في نهاية المطاف في عملية سياسية حتى تحظى هذه العملية بالشرعية اللازمة.
لقد كان من الواضح أنّ هذه المنصّة لا تتمتع بالتوازن المطلوب بسبب وجود روسيا وإيران في خندق واحد، وقد كان من الصعب جدا على تركيا إجبار كلا البلدين على تقديم تنازلات سيما وأنّ الأطراف الأخرى (كالولايات المتّحدة والسعودية) كانت إما غائبة أو تعمل ضد مصالحها. ومع ذلك فقد تمسك الجانب التركي بضرورة عدم إشراك ممثلين عن الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني في المفاوضات وضرورة رحيل الاسد مع بدء العملية الانتقالية وهو الموقف المبدئي نفسه الذي لا تزال المعارضة السورية تتمسك به.
في المقابل، يصرّ الموقف الروسي على ضرورة بقاء الأسد حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة حيث يتم تقرير مصيره من خلال صناديق الاقتراع، لكن الانتخابات التي نتحدث عنها ستكون في سوريا وليس في سويسرا، ولذلك فإن الهدف من هذه المناورة هو إبقاء الأسد حيث لا قيمة أصلا لصناديق الاقتراع ناهيك عن أنّ الظروف المتعلقة بانتخابات من هذا النوع تجعلها عبثية.
أما بالنسبة إلى الموقف الإيراني، فهو أعلى من الموقف الروسي قليلا، إذ لا يريد تغيير الاسد ولكنه يحضّر لمواجهة السيناريوهات الأخرى على مستوى آخر مختلف كليّا. فبغض النظر عن مصير الأسد، قامت طهران باستنساخ "اسود" مناطقية صغيرة في سوريا وبناء جيش من الميلشيات وتكوين حاضنة طائفية داعمة لها. بالاضافة إلى ذلك، يركّز الإيرانيون على شكل النظام المقبل لناحية أن يكون علمانيا (اي غير سني)، وبرلمانيا (حيث يسهل لايران تعطيل قرار الاغلبية)، وقائما على محاصصة طائفية وعرقية ومناطقية (حيث يوسع ذلك من قدرة ايران على السيطرة في مواجهة أي لاعب آخر).
وفي يتعلق بالمملكة العربية السعودية، فقد قررت قبل حوالي شهرين ونصف القبول تماما بفكرة بقاء الأسد رئيسا، لكنها تعتقد انّ ذلك سيؤدي إلى قيام موسكو بإخراج إيران من سوريا وإقناع بشار الأسد بالابتعاد عن طهران. ولإرضاء موسكو وواشنطن، قامت الرياض بما لم تقبل أنقرة القيام به، وتطوعت ‘ابلاغ المعارضة السورية رسميا بأنّ الواقع قد تغيّر وأنّ عليها القبول بالأسد وإنشاء جسم جديد لها تمهيدا للتعامل مع المرحلة القادمة.
هذه الخطوة السعودية ستصيب تركيا والمعارضة السورية بأضرار جسيمة، فاستسهال القبول ببقاء الأسد دون الحصول على شيء في المقابل سيكون بمثابة كارثة، كما أنّ العمل على إدخال الأطراف التي رفض الجانب التركي إدخالها إلى جسد المعارضة سيقوض من موقف أنقرة امام موسكو، ولن تعود اأاخيرة بحاجة إلى تركيا بالشكل الذي كانت تحتاج فيه إليها قبل الخطوة السعودية، سيما وأنّ كل هذا يتم بموازاة تأهيل الإمارات للدور المصري في سوريا.
لا تبدو السياسة السعودية مهتمة بما قد ينجم عن هذا التهريج السياسي من تكريس للتفكك السوري سياسيا أو اجتماعيا أو طائفيا أو جغرافيا، والتجربة السعودية في لبنان والعراق واليمن بالتحديد توفّر علينا الكثير من الجهد لمعرفة النتائج المتوقعة لهذه السياسة.
هناك أفكار أخرى يتم طرحها بين الحين والآخر تتعلق بالمجلس الرئاسي أو نائب الرئيس، لكن كلما تراجعت الأطراف المعارضة للأسد كلما ضعف حافز إخراج الأسد. المعارضة السورية لا تزال تقاوم حالة شبه الإجماع الحاصلة اليوم للقبول بالأسد، وبالرغم من تراجع دورها إلا أنّ موقفها مهم في جميع الأحوال حتى ولو كان ضعيفا، فمن دونه لن يكون هناك شرعية لأي نظام سياسي جديد في سوريا وهو ما يعني أنّ الصراع سيستمر لكن بأشكال وأساليب أخرى.