* تنتابني هذه الأيام رغبة عنيفة في استرجاع ما قلت وما كتبت وما طالبت به، ليس لأقول للأغبياء تشفيا: "ما أنا ياما قلت لكم"، وليس على سبيل ادعاء الحكمة بأثر رجعي، وليس على سبيل الحنين لما كان، أو اليأس مما ننتظره ولا يأتي، وليس كسلا عن تقديم الجديد، أو استسهالا للتكرار الذي لا يناسب "الشطار"، لكنني أشعر أن المعاني الواجب توصيلها إذا قيلت اليوم، ستثير اللغط والشبهات، وتفتح الباب لتأويلات المرضى العصابيين، وتفتح باب المزايدات لكتائب العباسيين المستأجرين، ولهذا يحلو لي أن أختار من كلامي السابق ما يناسب اللحظة، لكي يخسر المتربصون فرصة تأويل الكلام بوصفه "انقلاب نقدي" على سلطة كانت "حلوة" لما كنا في الداخل، ثم صارت "كخة" لما أفلتنا من تحت أسنانها، ولذلك سأبارزهم هذه المرة بكلام الداخل ذاته، وأدعوكم لقراءة هذا المقال القديم الذي كتبته في مايو 2015 أثناء إحدى سفرياتي للخارج منذ أكثر من عامين.. وكانت غربة قصيرة استغرقت شهرا واحدا.
* حمل المقال المنشور منذ 28 شهرا عنوان: "مصر من بعيد.. بحبك ولكن!"، كما حمل نفس الملاحظات التي أريد التأكيد عليها اليوم، لذلك لن أكتب نفس المعاني بألفاظ جديدة، لكي أدين هذا الجمود، ولكي أدين هذا التجاهل الغبي لما نكتب، ويكتب غيرنا من المخلصين، ولكي ندين تكلس مصر الرسمية على رصيف التخلف، حتى صارت عصية على التغيير للأفضل، وعلى الاستجابة لمحاولات الإصلاح، وعليه الاستفادة من النقد البناء
* يقول المقال بدون أي تصرف:
"طالت جولتي خارج الوطن، لكن الغربة كانت فرصة لرؤية مصر بشكل أعمق بعيدا عن مشاحنات اللحظة، وصراعات التطلعات المتناقضة.. منذ اللحظة الأولى لم يفارقني الحنين للناس، ولغتهم الشعبية الخاصة جدا، ورغبتهم الدفينة في الحياة على هذه الأرض بالذات، وسط هذا الشعب الطيب المشاكس بالذات. لم يمنعني الحنين من الانشغال بأسئلة كثيرة أخرى في مقدمتها السؤال الذي نلف وندور حوله جميعا:
* لماذا تعاني مصر من الفوضى القانونية والسلوكية، ومن غياب النظام في الشارع، ومن قلة النظافة، ومن مظاهر احترام المواطن بصرف النظر عن منصبه وثروته؟
- لم تكن الأسئلة نابعة من كراهية أو غضب، لكن من حب وغيرة ورغبة عميقة أن تكون مصر مثلا للحضارة والفخر، لا للبؤس والظلم والضعف.
* مصر بهية.. لكن شيئا في ملامحها انطفأ، ويثير الشفقة على وطن عظيم تعثر.
* مصر قادرة.. لكن هناك من يدفعها للتسول والنوم على أرصفة الحضارة
* مصر عفية.. لكنها تستخدم عافيتها في حرب الأظافر، والاقتتال النفسي في طوابير البؤس والتزاحم على موقع قدم في المساحة الضيقة التي تتيسر فيها ظروف الحياة الأفضل.
* مصر وَنّاسة.. الحياة فيها لها طعم رائع، والصحبة كنز، والعلاقات الإنسانية لها قاموس خاص لا تجده في أي مكان آخر بالعالم، الشوارع بيوت، والمقاهي بيوت، والأرصفة بيوت، حتى داخل سجونها يمكن أن ينبت العلم وتترعرع الذكريات.
* مصر كبيرة.. هناك بلدان أكبر منها في مساحة الأرض وتعداد السكان، ومصادر الثروة، لكن مصر لديها رحابة من طراز خاص، تنوع غير محدود، وانفتاح تلقائي بحيث يمكنك أن تكسب صديقا في كل خطوة، وتستلب الغريب من غربته ليصبح مصريا أكثر من المصريين أنفسهم، وهذا هو الانقلاب الذي أخشى من استمراره، بعد أن صار المصري هو الغريب في وطنه!
* لماذا؟.. لماذا لا نشعر بروعة مصر إلا عندما نبتعد عنها؟، ولماذا لا يكتمل الحب بالحياة السعيدة على أرضها؟
- التقيت بمغتربين مصريين يتقطعون حزنا، لأنهم يتمنون العودة، لكنهم يعتبرون قرار العودة انتحارا، وتضحية حمقاء بمستقبل أولادهم، وبالحياة المستقرة الهادئة التي حققتها لهم بلاد الغربة!
التقيت أيضا عربا وأجانب تستهويهم فكرة الحياة في مصر، وقال لي أحدهم: تمنيت لو أنني وجدت الأرض مهيأة لأعمل وأعيش في بلدكم.. أنا أحب هذا البلد.. لقد عشت فيها وقتا قصيرا، فجذبتني، وسكنت ذاكرتي، وأتمنى أن أعيش فيها، لكن هل تتسع لي أرض تطرد ناسها؟
* منعت دمعة كادت أن تكشف حزني على حال مصر، وتمنيت أن ينتبه القائمون على الأمر إلى صورة مصر في عيون محبيها.. تمنيت أن تكون الأولوية في تسهيل مشاريع الاستثمار للمصريين في الخارج، ثم المحبين والمنتمين والعاشقين لمصر، ولا تتحول الرغبة في تنشيط الاستثمار إلى رغبة عمياء تنظر إلى رأس المال أكثر مما تهتم بمشاعر المستثمر وتطلعاته.
افتحوا الوطن لأهله الراغبين في العودة.. افتحوا الوطن لمحبيه من كل جنس ودين
حينها سترجع مصر بهية.. عفية.. قادرة.. متحررة.. عزيزة.. كريمة.. محروسة،،،
آه يا مصر وآه يا مصر..
ألف آه وآه يا مصر.
* أتمنى لو قرأتم بتركيز، لتكتشفوا الحكمة من إعادة نشر المقال.. هل يبدو لكم هذا الكلام قديما عفا عليه عامان من الزمن ويزيد؟، هل تبدو مصر السلطة صماء وعمياء وجافية إلى هذا الحد، بحيث لا تسمع أولادها ولا تأبه لمطالبهم ونصائحهم وغيرتهم على بلدهم؟
أيها العقلاء الغيورون على بلدانكم، لا تتركوها رهينة في أيدي هؤلاء الحكام الصم العمي الجهلاء الأغبياء، نريد بلدانا تمشي وتتحرك نحو النور، بدلا من أن تظل بكل ما فيها ومن فيها أسيرة مشلولة تحت رحمة هؤلاء الأوغاد حراس القهر والتخلف..
هذا المطلب هو قديمنا وجديدنا معا، ولن نسكت عنه، حتى نحققه بعون الله العادل وبإرادة الشعب الواعي.
[email protected]