نسمع هذه الأيام كثيرا من المحللين الأتراك قولهم: "يجب أن تقطع تركيا حبلها السري بنفسها"، في إشارة إلى ضرورة تحركها ولو وحدها، في ظل تخاذل حلفائها المفترضين عن دعمها في مواجهة التحديات التي تهدد أمنها القومي ومصالحها العليا ومستقبلها ووحدة ترابها.
تركيا وقفت إلى جانب الشعوب الثائرة من أجل حريتها وكرامتها منذ اللحظات الأولى للربيع العربي. وكانت أنقرة ترى أن اللحظة التاريخية قد حانت لحصول الشعوب على حق المشاركة في صنع القرار عبر الطرق السلمية والديمقراطية، إلا أن موجة الثورة المضادة نجحت في تحويل دول الربيع العربي إلى ساحات الصراعات الدموية. وكان موقف الأمم المتحدة والدول الغربية المتشدقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، من مطالب شعوب المنطقة وثوراتها، مخيبا لآمال تركيا، لأنها كانت تتوقع أن لا تقف الدول الغربية في وجه الشعوب الثائرة إن لم تدعم ثورات الربيع العربي، إلا أن تلك الدول بما فيها الولايات المتحدة وقفت إلى جانب الأنظمة الدكتاتورية ودعمتها في قمع الشعوب بكل وحشية ودموية.
لم تكن خيبة أمل تركيا مقتصرة على تخاذل الأمم المتحدة والدول الغربية عن الوقوف إلى جانب الشعوب، التي خرجت إلى الشوارع والساحات في مظاهرات سلمية من أجل المطالبة بالديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة، بل وصل الأمر ببعض الدول التي تعد من أبرز حلفاء أنقرة، إلى القيام بتحركات مشبوهة في شمال سوريا لا يمكن وصفها إلا بـ"التآمر على تركيا"، في ظل تراجع فصائل الثورة لأسباب عديدة.
أنقرة حاولت كثيرا لإقناع واشنطن بضرورة التراجع عن دعم وحدات حماية الشعب الكردي، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، إلا أن الأخيرة تجاهلت مخاوف تركيا وتحذيراتها. ومع ذلك، انتظرت القيادة التركية نتائج الانتخابات الأمريكية لترى موقف الرئيس الجديد من الملف السوري، إلا أن إدارة دونالد ترامب أيضا اختارت دعم وحدات حماية الشعب الكردي بدلا من الإصغاء إلى ما تقوله تركيا.
الظروف الراهنة في المنطقة واستمرار الولايات المتحدة في دعم تمدد وحدات حماية الشعب الكردي في شمال سوريا، تحتم على أنقرة البحث عن سبل التعاون مع القوى الدولية والإقليمية -قدر الإمكان- لمواجهة مشروع إقامة ممر للمنظمة الإرهابية يصل من حدود العراق إلى البحر الأبيض المتوسط ويقطع الاتصال البري لتركيا مع الدول العربية. وهذا ما يفسر التقارب الأخير بين أنقرة وموسكو من جهة، وبين أنقرة وطهران من جهة أخرى.
كانت العلاقات التركية الروسية تدهورت بعد إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية دخلت أجواء تركيا في 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2015، إلا أنها تحسنت بشكل سريع بعد أن تيقنت أنقرة وموسكو أن هناك أطرافا تسعى لإشعال فتيل الصدام بينهما. وبعد ترميم العلاقات الثنائية، وصل التعاون بين البلدين إلى توقيع اتفاقية بموجبها تشتري تركيا من روسيا منظومة صواريخ "أس 400" لتعزيز دفاعها الجوي واستقلاليتها العسكرية والسياسية، في ظل امتناع حلفائها في حلف شمال الأطلسي عن مساعدتها في حماية حدودها.
التقارب التركي الروسي ليس الاتجاه الوحيد في انفتاح أنقرة على القوى الدولية والإقليمية لمواجهة الخطر الذي يكبر يوما بعد يوم على حدودها مع سوريا. بل هناك تقارب آخر يعزز الأول، وهو التقارب التركي الإيراني الذي دخل مرحلة جديدة بعد الزيارة التي قام بها رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري إلى العاصمة التركية. ويشير محللون أتراك وخبراء في الشأن الإيراني إلى أهمية الزيارة التي استغرقت حوالي ثلاثة أيام، مؤكدين أن الوفد الإيراني العسكري ناقش في أنقرة تفاصيل عديدة متعلقة بالملفين السوري والعراقي.
تركيا أعلنت مرارا على لسان مسؤوليها أنها لن تسمح على الإطلاق بقيام دويلة في شمال سوريا يقودها حزب العمال الكردستاني. وها هي اليوم تستعد هذه الأيام للقيام بعملية عسكرية أخرى، على غرار عملية درع الفرات إن لم تكن أكبر منها، للقضاء على حلم المنظمة الإرهابية وتمددها. وهناك تكهنات حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه التعاون العسكري بين تركيا وإيران، إلا أن قيام البلدين بعملية عسكرية مشتركة في سوريا يبدو مستبعدا؛ لأن أنقرة ما زالت لا تثق بالنظام الإيراني، حتى لو اضطرت للتعاون مع طهران في الظروف الراهنة.