كنت دائما أتابع صفحة الرأي في الصحافة العربية والأجنبية !
كنت –وما زلت– أعتبر صفحة المقالات (مخ المجتمع)، وكلما ازدادت تلك الصفحة ثراء وعمقا كلما ازداد المجتمع أمانا واحتراما، وكلما زاد الكتاب الجادون – خصوصا الشباب – كلما ازداد المجتمع حيوية ونقاء!
قدمت برنامجين تلفزيونيين بعنوان (صفحة الرأي)، أولهما كان في عام 2010، في عهد مبارك، في قناة مغمورة، وكان برنامجا أسبوعيا، يعرض خلاصات المقالات في الصحافة المصرية.
كنت أقدمه وأعده بمساعدة طاقم مكتبي (حين كان لي مكتب في القاهرة، وقبل أن يغلق ويسرح موظفوه بسبب الظروف الأمنية)، واستفدت من تلك التجربة كثيرا، فقد كان هذا البرنامج الأسبوعي في تلك القناة "بروفة" لبرنامج تلفزيوني ناجح، استفاد منه المشاهد المصري والعربي بعد الثورة.
كانت نهاية التجربة الأولى (تليفون من أمن الدولة) ... لم يتمكن صاحب القناة من المقاومة كثيرا، واضطررت للانصراف بعد عدة أسابيع ... إنه عهد حسني مبارك، وكان من المستحيل على شخص مثلي أن ينجح في البقاء على الشاشة في ظل هذا الرئيس.
***
حين قدّمت النسخة اليومية من برنامج (صفحة الرأي) على قناة (سي بي سي)، كانت رؤيتي للبرنامج شديدة الوضوح، وأعانني في تلك الفترة فريق محدود العدد، فائق القدرات، واضح الانحيازات، متعدد المشارب، متسامح مع الجميع.
قدمت هذا البرنامج عاما كاملا، من منتصف 2011، إلى منتصف 2012، واستضفت في ذلك العام ألدّ خصومي فكريا (حين كتبوا مقالات مهمة)، كان عنوان فريق العمل (نبحث عن المقالة الجيدة ... أيا كان كاتبها).
لذلك ... تحيزنا للشباب على حساب المشاهير، وللثورة، على حساب التوازنات السياسية، وللناس على حساب أي سلطة أيا كانت.
***
في يوم انقلاب الثالث من يوليو كانت ما زالت صفحات الرأي تتمتع بحريتها، أذكر أن هذا اليوم كانت جريدة الأهرام قد صدرت وفي صفحة الرأي مقالة الدكتور حلمي الجزار (في موعدها الطبيعي).
ثم بدأت مجزرة المنع من الكتابة ...!
بالنسبة لي ... مُنعت أولا من مقالي اليومي في اليوم السابع، ثم بعد عدة شهور مُنعت من مقالتي الأسبوعية في جريدة الشروق، وبعد أن ظهرت في أحد أشهر البرامج وقلت إننا نعيش في ظل انقلاب عسكري كامل ... مُنعت منعا أشد مما كان في عصر مبارك.
***
ما زلت أرى أن مكاني الطبيعي هو (صفحة الرأي) ... أنا شاعر وكاتب !
ولكن السلطات في بلداننا ترى أن أمثالي مكانهم صفحة الجريمة، لذلك تتصدر أخباري – أنا وأبي الكريم وأسرتي الغالية – صفحات الجريمة في مصر والعالم العربي (الذي تموله مليارات البترول)، فتقرأ أخبارا عن مؤامراتنا على أوطاننا، وتمويلنا للإرهاب، وعلاقاتنا بجماعات متطرفة تقتل المسؤولين، ورجال الشرطة والجيش ... ونحن في نهاية الأمر أناس لا موقع لنا إلا في (صفحة الرأي) ... لا نملك إلا أقلاما، نكتب بها آراءنا، ونقدمها للناس، فمن أعجبه رأينا شكرناه، ومن عارضنا ناقشناه، ومن استخدم العنف نبذناه، ولا يوجد في تاريخ كاتب هذه السطور (أو أي من أفراد أسرته التي يسجن نساؤها وتصادر أموالها) أي دعوة لأي عنف ... اللهم إلا بالتلفيق الذي يمكن أن يحول النهار ليلا.
***
كلما تأملت (صفحة الرأي) في ظل حكم العسكر أتحسر على الحال الذي وصلنا له، تشويه أفكار الناس جريمة لا تغتفر، ولكنها ضرورة لا يمكن أن يستمر بها نظام بهذا الدرجة من القذارة.
نشاهد على صفحات الرأي أناسا لا مكان لهم إلا مستشفى المجانين، أو ما هو أسوأ، فهذا متحدث رسمي باسم الجيش يظن الكتابة رتبة في عسكرية، فيكتب هراء لا يصلح كموضوع تعبير للصف الثالث الإعدادي، ولا يكتفي بذلك ... بل يتطاول على الذين قضوا أعمارهم مع القلم، وأفنوا زهرة شبابهم يدافعون عن شرف الكتابة ... ضد من دنسوا شرف العسكرية !
صفحات الرأي اليوم أصبحت مرحاضا للأفكار، يوغل فيها أناس لا خلاق لهم، ولا يملكون من مؤهلات الكتابة شيئا، ولا يكتبون سوى ما يملى عليهم، أو يزايدون على كتبة السلطان من عند أنفسهم ليصلوا إلى عرض من الحياة الدنيا، حتى لو كان ثمن ذلك أرواح تزهق، وأعراض تنتهك، وأموال تغتصب، وأسر تشرد، وشباب ينفى، ومواطن يقهر، وفقير يجوع، وأمة عزيزة كريمة تهان من أجل مصالح أعدائها.
***
هل أسهبت في الحديث عن نفسي؟
ربما ... ولكن لا بد أن نعلم أن مكاننا الطبيعي هو (صفحة الرأي)، ومن هذا المكان انطلقنا لنؤدي دورنا بين الجماهير، ومحاولة إقصائنا من صفحات الرأي هي وسيلة لإبعادنا عن الناس، ويستكمل ذلك بفرض كتّاب السلطان بقوة السلاح.
في النهاية ... مهما اجتهد من لا رأي له، ومن لا مكان له في صفحات الرأي لفرض رأيه علينا، وتحويلنا إلى مجرمين لا ذكر لنا إلا في صفحات الجريمة ... سيظل هذا الأمر أمرا طارئا، وقد حاول ذلك عشرات الطغاة، وفشلوا، وعدنا وسنعود إلى مكاننا الطبيعي، لأن الأمم في نهاية الأمر حين تجد نفسها في أزمة بسبب مجموعة من العملاء لن تجد من يغير حالها سوى أصحاب الفكر ... نحن من ينتج الفكر ...!
أسوأ ما في هذا الوضع أن حذف أسمائنا من (صفحة الرأي) كان ثمنه أن توضع الأمة كلها في (صفحة الحوادث) !
***
غمة ... وستزول ... قريبا جدا بإذن الله تعالى !
وكل من يشك في ذلك معذور، ولكنه ليس مصيبا، وهؤلاء الجاثمون على أنفاس الأوطان مصيرهم الهروب، أو الوقوع في أيدي الجماهير الغاضبة، وحينها سنراهم للمرة الأخيرة ... في الصفحة الأولى !
***
آخر القول :
مَا زِلْتَ مُحْتَارًا ...؟
أَقُولُ لَكَ انْتَبِهْ
دَوْمًا عَلامَاتُ النِّهَايَةِ في اقْتِرَابٍ حينَمَا تَبْدُو بَعِيدَةْ ...!
في الصَّفْحَةِ الأُولَى نَرَاكَ مُتَوَّجًا
ولَسَوْفَ نُبْصِرُهُ هُرُوبَكَ مُعْلَنًا ومُوَثَّقًا
بِشَمَاتَةٍ طُبِعَتْ على نَفْسِ الجَريدَةْ ...!
يَا سَيِّد القَصْرِ المُحَصَّنِ
نَحْنُ مَنْ يَجْري وَرَاءَكَ بالحِجَارَةِ والبَنَادِقِ
فَانْتَبِهْ ...
لَسْتَ الزَّعيمَ اليَوْمَ بَلْ أَنْتَ الطَّرِيدَةْ ...!
عبدالرحمن يوسف
موقع الكتروني : www.arahman.net
بريد الكتروني :
[email protected]