قضايا وآراء

محاولات في التعريف الإجرائي (1): "حزب فرانسا"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
دون أن ندعي تقديم تعريف علمي مطابق لموضوعه، ومساهمة متواضعة منا في بناء نظام تسمية متحرر ولو جزئيا من نظام التسمية المصنوع والمفروض في الزمن الاستبدادي، سنحاول بداية من هذا المقال اقتراح بعض العناصر التي تصلح لبناء تعريفات قد تساعد على فهم أفضل للواقع التونسي بعد الربيع العربي.

وقد اخترنا أن ننطلق من تركيب رائج في الثقافة التونسية بشقيها الشعبي والعالمي ألا وهو "حزب فرانسا". وسيكون صاحب هذا المقال ممتنا لكل التعقيبات والتصحيحات التي يراها ضرورية لبناء معرفة "حوارية" ديدنها الدفاعُ عن تعددية الأصوات ونقدُ أحادية الصوت/الحقيقة.

حزب فرانسا- مع مراعاة النطق التونسي "الدارج" للحفاظ على الشحنة الدلالية المرتبطة بالوعي الجمعي وليس بنشاط النخب-، هو "تشكيلة اجتماعية اقتصادية" كبرى يتم فيها استدماج الكثير من الأيديولوجيات "المتناقضة" مرجعيا ومفهوميا والمتصارعة تاريخيا، وذلك بتذويب تلك الاختلافات المرجعية و"تحييد" مفاعيلها الصدامية خدمةً للأساطير المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي" باعتبار "النمط المجتمعي" هو الأسطورة التوليدية الأم لباقي الأساطير المشتقة والمتحكمة في إنتاج الخطاب الحداثية على اختلافها.

إنه مشروع تابع للمركز الغربي، ولا غاية  له -رغم كل ادعاءاته الذاتية- إلا إدارة التخلف وإعادة إنتاج آليات "الاستتباع" الثقافي والاقتصادي والسياسي ضمن رؤية "علمانية يعقوبية فرنسية" ثابتة أساسها مركزة السلطة وهيمنة الدولة على الشأن الديني وتوظيفه لخدمة شرعيتها المهزوزة.

ويتمّ في هذه "الأرضية الثقافية العامة" التي يمكن اعتبارها تشكيلة اجتماعية و بنية فكرية "مُعولمة" باعتبارها "ما بعد أيديولوجية" بالمعنى النسقي لكلمة إيديولوجيا-،  أي غير خاضعة إلى أي سردية من السرديات الكبرى رغم هيمنة الرأسمال البشري "التقدمي" والرساميل البرجوازية عليها. إنه "حزب" ولكن ليس بالمعنى التقني للكلمة، فهو شبكة علاقات ومصالح عابرة للأحزاب وللأيديولوجيات وللجهات بصورة يجتمع فيها العائلات الأيديولوجية جميعا مادامت متوافقة على قاعدتين كلّيتين: أولا، التعارض الأساسي هو مع الإسلاميين لا مع أي نظام سياسي أو اقتصادي تابع، ثانيا، الرأسمال البشري التابع للمنظومة القديمة هو حليف قوي ويجب التحالف معه في إطار ما سُمّي بالعائلة الديمقراطية".

يمكننا اعتبار كل المعارضة الكرتونية المعترف بها في عهد بن علي جزءا من حزب فرانسا، فتلك المعارضة كانت جزءا بنيويا من آليات شرعنة الدكتاتورية في الداخل، وحليفا موثوقا لتسويق التجربة "الريادية" أو "المعجزة التونسية" في الخارج.

كما أنها كانت تمثّل دائما "الطابور الخامس" الذي يمدّ الماسكين بالسلطة بما يحتاجونه من "الكفاءات" عند مرور النظام بأزماته الدورية أو عند احتياجه إلى تعديل في آليات اشتغاله مع المحافظة على سياساته الكبرى. فالمشترك "اليعقوبي" في مستوى الفلسفة السياسية يعمل على تذويب الفوراق الأيديولوجية وصهرها ضمن تشكيلة "ما بعد أيديولوجية" تتعرف إيجابيا بالانتماء إلى المشروع الحداثي-البورقيبي وتتعرف سلبيا بالتعارض مع الإسلاميين لا مع السلطات الاستبدادية. وهو ما يفسّر تحالف الماركسي الراديكالي مع البعثي مع القومي مع التجمعي في إطار سردية "حداثية" هي الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي ضد مخاطر "الرجعية" و"الظلامية".

وليس حزب فرانسا -الذي هو أيضا بقايا التحالف المالي الأمني الجهوي المهيمن على أجهزة منذ عقود - إلا مجازا يعبّر عن حقيقة موضوعية هي جملة المصالح المادية والرمزية التي أري لها الاستمرار بعد الثورة  ومنع أي مراجعة نقدية تسعى إلى بنائها بصورة إن لم تكن مغايرة "جذريا" فعلى الأقل أكثر عدلا . ولا يكون "المشروع الوطني" أو "النمط المجتمعي " أو "البورقيبية" من هذا المنظور إلا تعمية على مشروع جهوي-زبوني-أمني تابع لا علاقة له بالوطنية إلا في مستوى التحشيد الانتخابي والبروبغاندا الإعلامية. بعد الثورة، يمكننا أن نقول إنّ الحزب التقدمي وحزب التجديد –الحزب الشيوعي سابقا- كانا أكبر معبّر عن هذه الواقعة السوسيولوجية المحلية: تحوّل المعارضة "القانونية" إلى واجهة "الشرعية الثورية" لا للقطيعة مع الماضي الاستبدادين بل لرسكلة رموزه وشبكاته المتنفذة بدعوى "المصالحة" والتسامح وعدم التشفي واستمرارية الدولة وغير ذلك من الحق الذي أريد به وجه "النواة الصلبة للمنظومة الدستورية-التجمعية" الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

لقد كان الهدف غير المعلن لأغلب القوى "الحداثية" التي أرعبها المد الإسلامي القانوني والمنفلت-وهو رعب شرعي أحيانا ومصطنع أو مبالغ فيه أحيانا أخرى- هو منع حدوث قطيعة جذرية مع دولة المخلوع، لأن تلك القطيعة ستعني انبثاق حقل سياسي جديد لا يمكن أن تتزعمه "المعارضة القانونية" للمخلوع بن علي ولا حتى المعارضة الراديكالية ممثلة في بعض الفصائل اليسارية، بل سيكون الإسلاميون هم مركزه وسيده الذي لا ينازع اذا ما احتكمنا إلى الإرادة الشعبية-أي إلى منطق القوة الكمية لا القوة النوعية- ، وهو احتمال كارثي لم يكن "الديمقراطيون" ليقبلوا به مهما كانت كلفة ذلك.

يُعتبر حزب فرانسا هو المظهر الأقصى للاشتغال الفعّال للبنية الذهنية"التجمعية" بعد أن فقدت حاضنتها "الحزبية" دون أن تفقد سندها السلطوي"البرجوازي" في الداخل، والإمبريالي في الخارج. ومن نافلة القول التذكير بأن "حزب فرانسا" بهذا المعنى الإجرائي لم يتجمع حول مبادئ الثورة الفرنسية-مبادئ التنوير- أو المصالح الفرنسية "تحديدا" - ففرنسا هي مجاز للغرب كلّه باعتباره "المركز" الذي يتمّ فيه "توزيع" القيم والمنتجات المادية والرمزية والدور التونسي "الهامشي" المدجّن في الاقتصاد العالمي-، كما قد يكون من نافلة القول التذكير بأنّ حزب فرانسا يضمّ الكثير من المتضلّعين من" اللغة العربية و آدابها"، بل الكثير من فقهاء السلطان والمتعممين، كما أنه ليس حكرا على أبناء المناطق والجهات المحظوظة، وليس متجانسا طبقيا.

لعل الهدف الأقصى لحزب فرانسا- وهو هدف نجح فيه بصورة كبيرة- هو إعادة إنتاج المنظومة القديمة مع توسيع قاعدتها الاجتماعية والجهوية والسياسية لكن دون المساس بنواته الصلبة –أي بالمرب الجهوي-المالي-الأمني الذي يحكم تونس فعليا قبل الثورة وبعدها-. إنّ هدفه هو منع حصول تغييرات فكرية ومكاسب مؤسساتية حقيقية تخرجنا من الخرافات المؤسسة للدولة "الحديثة" في الداخل، وتحررنا من وضعية "الرضع الدائمين" تجاه " الآباء" الغربيين في الخارج-خاصة في فرنسا-. فهؤلاء جميعا-أي سدنة النمط المجتمعي التونسي بما هو تبيئة فاشلة لقيم الجمهورية الفرنسية- يمثلون المرجع النهائي للمعنى "الصحيح" والمقبول إقليميا ودوليا، فهم الأنا المثالي الذي علينا التسليم بسلطته حتى إذا كانت تلك السلطة ستمنع أي انفتاح على الأطروحات غير اليعقوبية التي يمكن استلهامها لبناء نموذج سياسي وطني ولضبط العلاقة بين الدولة والدين في إطار توافق لا يُؤنث الدين- بجعله ممارسة لا تتعدى الفضاءات الخاصة البعيدة عن الأنظار وعن الفضاء العام- ولا يُوثّن الدولة-بجعلها تتدخل في المعاني النهائية للوجود وتنافس الدين في وظائفه التقليدية-.

ختاما، قد يكون من المفيد أن نؤكد على أنّ حزبا فرانسا ليس له نقيض موضوعي أو مفهومي مفرد. بل إن كل الأنساق الإيديولوجية المغلقة هي حليف موضوعي له إذا ما أصرت على إدارة خلافاتها بمنطق التنافي ومفردات الصراع الوجودي لا بمنطق الشراكة والاعتراف المتبادل. وهو ما يعني ضرورة انبثاق أيديولوجية وطنية حقيقية-ليست بورقيبية بالضرورة ولكنها تستدمج البورقيبيبة بما هي لحظة من لحظات اشتغال العقل السياسي التونسي دون أن تكون أفضل لحظاته أو نهاياته التي لا تقبل الاستئناف-.  إنها إيديولوجية وطنية تعارض فرض أية تصوّرات وعقائدك على مجمل المجال العام بسلطة الدولة ومنطق "الطليعة الثورية" ، أيديولوجيا تعلمنا أنّ مخالفينا هم خصوم وليسوا أعداء، وتعلمنا أن نخرج من منطق البديل إلى منطق الشريك، إنها إيديولوجيا ترسخ احترام الإرادة الشعبية حتى عندما لا يكون في مستوى توقّعاتنا – أي عدم الانقلاب عليها بدعوى شعبوية "العامة" وعجزها عن تحديد مصالحها أو أعدائها الحقيقيين-.

إننا محتاجون إلى تجاوز حزب فرانسا –بما هو وكيل الترسبات الاستعمارية الواعية واللاواعية، المادية منها والرمزية- وذلك بأن نبني معا إيديولوجيا وطنية تقبل بأبسط استحقاقات الثورة ألا وهو إعادة توزيع السلطة والثروة على أسس أكثر عدلا. عندها فقط  لن يكون المتصارعون -مهما اختلفوا-  طابورا خامسا لدوغمائيي "حزب الغزاة"-حزب التجويع والتركيع-، ولا مخزونا استراتيجيا لمتنطّعي "حزب الغلاة"-أي حزب التكفير والتفجير-: سيكونون تونسيين وكفى...
2
التعليقات (2)
محمد داود
الإثنين، 07-08-2017 05:34 م
تجدر الإشارة إلى أن من أهم معالم شخصية الفرد (ذكرا أو أنثى) التابع لحزب فرنسا أنها شخصية تعاني من أزمة هوية لغوية دينية في آن واحد، وهل أقرب إلى الإنسان، أين ما كان، من لغته ودينه، وإن كان على غير دين سماوي فهو مأدلج إلى حد العمى... فيكفيك أن تخالف أحدهم الرأي أو تناقشه نقاشا منطقيا فتجده يسعى إلى تصنيفك في الطرف المقابل الذي يرضاه هو وعندها تتعطل لديه ملكة الفهم والوعي وكأن هناك من أسدل على عقله ستارا أسود أشبه براية الدواعش. هذه الشخصية أيضا تتصف باستحواذها على مصطلحات (الديمقراطية) و(الحداثة) و(التقدمية) فإذا خالفت أحدهم الرأي اتهمك بالقصور والبساطة في التفكير وحتى الجهل وتعجب من نعدم انضمامك إلى صفه. وقد شدني في مقالك ذكر انتماء الكثير من المتضلعين في اللغة والآداب العربية إلى حزب فرنسا، وكنت شخصيا دائم السؤال عن هذا الأمر الذي بدا لي غريبا خاصة مع اقتناعي بأن المتخصص في هذه اللغة وآدابها لا بد أن بتحقق فيه أمران: أولا حذقه للغة العربية مما يكسبه قدرة أكبر من غيره على فهم القرآن وباقي التراث الديني الصحيح وهو ما من شأنه أن يقوي عنده الوازع الديني ويحميه من انفصام الشخصية الهووي، وثانيا اطلاعه الواسع (فرضا) على التاريخ العربي الإسلامي ووعيه بالصراعات التي عانا منها العرب والمسلمون وكذلك الحملات الاستعمارية التي طالتهم. إنه فعلا أمر محير أم هؤلاء... وهل يكون مجرد تعلمهم على يدي المستشرقين وخريجي الاستشراق من أبناء جلدتنا؟ ربما حولت يا سي عادل توضيح هذه المفارقة وسأكون ممتنا.
مريم الرياحي
الأحد، 06-08-2017 05:02 م
في ضل قراءتك لحزب فرنسا....مكونا ومعنى.....الا تعتقد انه يحمل اسباب فنائه فيه؟ انا اعتقد ان قيامه على مجرد فكرة جامدة واهية النمط المجتمعي التونسي من جهة وعداؤه للاسلاميين من جهة اخرى....دليل على عقمه وهشاشته..... كما انه يقوم على تمايز كبير بين مكوناته وعناصره.....اذ يقوم على الابن البار والمدلل.....ابن الحرة الابن الاقل شانا......ابن الجارية الابن الابيض المدلل هو العائلات البورجوازية السواحلية والبلدية من رجال اعمال وسياسيين والاطر الامنية والعسكرية العليا.... الابن الملون ابن الجارية وان اشترك في رفعة النسب-يعقوبي- نسبة الى ابيه ولكنه يبقى ابن الجارية الاقل شانا والاقل حظافي حزب فرانسا.....توكل اليه مهمات الاسناد وقطع الطريق وضرام النيران....ويرمى اليه عقب كل معركة بالفتات....اليس هذا شان اليسار التونسي....لا يتجاوز نصيبه وزارة الثقافة....والمؤسسات التابعة لها...دار الحكمة....المسرح الوطني.... رغم امتلاكه او هيمنته على اقوى منظمة في الدولة الاتحاد العام التونسي لشغل....والرابطة التونسية لحقوق الانسان.....يظل دوره دور التابع ولا يستدعى الا في الازمات ثم يرد الى مربعه الصغير.....وصلاحياته القديمة