هناك دروس عدة تستقى من نصر الأقصى، هذا النصر الذي أنجزه المقدسيون ومن ورائهم جموع الفلسطينيين، الذين تلاحموا شعبا وقيادة وفصائل وتنظيمات، كان حقا نصرا مبينا وليس معنويا فقط، باعتراف العدو، ورغم أنف الطابور الخامس العربي الذي كان يريد زرع الهزيمة في نفوس الشباب الفلسطيني أولا والعربي ثانيا.
هذا النصر تحقق بجهود فلسطينية ذاتية خالصة، وبسواعد ودماء شباب القدس، الذين تصدوا بصدورهم العارية لجنود الاحتلال، بعد أن خذلهم الكثير من الأشقاء العرب.
هذا النصر ضرب مثلا بأن الإرادة القوية والعزيمة والتصميم والنفس المقاوم قادرة على إلحاق الهزيمة بخامس أعتى قوة عسكرية في العالم، وبلا عتاد ولا عدة وبلا طائرات حربية ولا صواريخ ولا دبابات، وبدون تبذير مئات مليارات الدولارات.
كان الفلسطينيون يتوجهون دوما إلى الأشقاء طلبا للعون، فوجدوا أن الأشقاء العرب في واد وهم في واد آخر، ووجدوا أيضا أن بعض الأشقاء يقفون في صف واحد مع دولة الاحتلال، شعروا بخذلان لم يدم طويلا، ليتحول إلى قوة، فزاد ذلك من تصميمهم وعزز لديهم القناعة بالاعتماد على القدرات والطاقات الذاتية، وأخذوا بالمثل القائل «ما حك جلدك إلا ظفرك» وهكذا كان.
أهمية هذا النصر المبين تكمن في أنه أذاق جيل المستقبل طعم النصر، وسلحهم بالإيمان بالنصر والعزيمة والاستعداد للمعركة التالية وهي أكيد مقبلة. وهذا ما عبر عنه احد الشباب من بلدة العيسوية في القدس، حسب ما نقلته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، في وصفه مشاعر النشوة السائدة في المدينة منذ نجاح «الثورة» ضد البوابات الإلكترونية والكاميرات الذكية في الحرم القدسي «أنا في الثامنة والعشرين من عمري، لم أعرف شعورا كهذا في حياتي، شعورا بالرأس المرفوع بأننا هنا ونملك القدرة على التعبير عن رأينا وقول ما يهمنا. الشعب قال كلمته، هذا المكان، الأقصى، مهم لنا ويعود لنا فقط».
هذا النصر يثبت حقيقة كانت غائبة عن الكثيرين من «رجال الدين الكسبة ومفتي السلاطين والمتأسرلين والمتأمركين والمطبعين»، وهي أن الحرم القدسي برمزيته الوطنية والدينية، صرح فلسطيني خالص، كما أكدت ذلك قرارات منظمة اليونيسكو، وبشهادة شاهد من بني إسرائيل، الذي قال إن بقدرتها فرض سيادتها على كل شيء إلا الحرم القدسي. وما القائل إلا الوزير الإسرائيلي الأسبق عوزي برعام، الذي أكد في مقال نشرته صحيفة «هآرتس» على أن السيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي لم ولن تتحقق». وهو في هذا الرأي ليس بمفرده، ويتفق معه معلقون بارزون آخرون.
هذا النصر تحقق، رغم محاولات الطابور العربي الخامس الطامح لنيل رضا واشنطن وإسرائيل أولا، وأسيادهم ثانية طمعا في مكافأة مالية أو منصب كبير، ورغم محاولاتهم تبرير أفعال أسيادهم، بتثبيط العزائم وزرع الخوف واليأس في نفوس الشباب الفلسطيني الذين تصدوا لجنود الاحتلال، بادعاء الحرص على دمائهم التي تضيع هدرا كما يزعمون.
هذا النصر المبين، أثار الرعب في قلوب ونفوس الزعماء العرب ولنقل أكثرهم، الذين التزموا، وعلى مدى أسبوعين هما عمر «ثورة الأقصى» الصمت، في انتظار وصول خبر الفشل والهزيمة التي كانوا يتوقعونها، بل كانوا يتمنونها ويسعون إليها، ليثبتوا للفلسطينيين أن نضالهم ليس إلا عبثا، حتى يتسنى لهم تمرير مشاريعهم التآمرية. وحسب صحيفة «هآرتس» فإن الزعماء العرب متخوفون من أن تكون «ثورة الأقصى» دافعا ومحركا لربيع عربي حقيقي ومختلف، يطال تلك الدول التي لم تشهد «الربيع العربي» الأول الذي حولته هذه الأنظمة إلى جحيم عربي لا يتمناه احد. فارتدت مؤامراتهم عليهم.
هذا النصر أرغم عددا من تابعي هذه الأنظمة، لاسيما الشيوخ الكسبة، الذين تجاوزوا الخطوط الحمر، بكل المعايير الدينية والأخلاقية والإنسانية، للتراجع عن فتاواهم المنافقة والانهزامية، فراحوا يتمسحون بالأقصى. فـ«الشيوخ الكسبة» الذين دعوا للتنازل عن الأقصى لدولة الاحتلال، صمتوا دهرا على مجازرها وانتهاكاتها لأقدس المقدسات، وعندما اضطروا للخروج عن صمتهم بفضل النصر ومحاولة اللحاق بالركب، نطقوا كفرا وحاولوا تجيير هذا الانتصار لصالحهم ولصالح أولياء نعمهم، فكما يقال لـ»للهزيمة أب واحد وللنصر ألف أب». فأصبح الأقصى بين ليلة وضحاها، بمنزلة الحرمين المكي والنبوي، حتى أن أحدهم وصف «الملك سلمان بن عبد العزيز بـ»خادم الحرمين الشريفين والأقصى».
هذا النصر المبين عراهم أمام انفسهم وأمام «الصحراء العربية»، كما يقول شاعرنا مظفر النواب «أطال الله في عمره» وأمام الملايين من اتباعهم الذين رفضت غالبيتهم مواقفهم التآمرية ضد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، هذا النصر فضح «أدوار أسيادهم الخفية ووساطاتهم المزعومة لدى واشنطن وتل أبيب». هذا النصر أسكت ولو إلى حين، مروجي الهزيمة والتطبيع الذين سيظلون مجرد فقاعات تظهر بين الحين والآخر لعل وعسى أن يبتسم لهم الحظ ويحققون المراد. وهذا النصر المبين خلق حالة من الاستقطاب السياسي والديني والأخلاقي في قلبه فلسطين والقدس والأقصى هذا النصر جاء في زمن الهزائم والانكسارات العربية.
أخرج عن النص قليلا لأعرج على ما قاله وزير الخارجية السعودية عادل الجبير ردا على دعوات بتدويل الأماكن المقدسة في السعودية وهي دعوات فيها وجهة نظر، لإخراج المقدسات من دائرة المناكفات السياسية. فقد اعتبر الوزير السعودي وهذا من حقه دفاعا عن بلده وسيادته، هذه الدعوات بمثابة إعلان حرب على دولته «ونحتفظ بحق الرّد على أيّ طرفٍ يُطالب بهذا التدويل».
فإذا كان عادل الجبير يعتبر مجرد الدعوة لفصل الدين عن السياسة بمثابة إعلان حرب على السعودية، فكيف يصنف من ينعتون حركات مقاومة فلسطينية بالإرهاب، ووضعها على قدم المساواة مع «داعش»، وكيف يصف الدعوات للتنازل عن الأقصى وأراضي فلسطين لصالح العدو، ودعوات التطبيع مع دولة الاحتلال، ألا يقول المثل بالمقلوب، صديق عدوي عدوي، ألا يقف هؤلاء المطبعون و«السعوديون الجدد» في صف الأعداء؟ أليست هذه الدعوات تعادل إعلان حرب على الشعب الفلسطيني؟
واختتم بما نقل عن قول وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل: «العرب يشكلون 5% من عدد سكان العالم، ويشترون 50% من سلاح العالم، والنتيجة أن 60% من لاجئي العالم هم من العرب» غريب.
وهناك من يضيف أن السلاح العربي الفتاك لا يظهر إلا في الأزمات الداخلية، وعند مقاتلة الأشقاء، وتختفي آثاره عندما يتعلق الأمر بأعداء الأمة، خاصة إسرائيل، التي يكتفى بقتالها بالدعاء، وحتى الدعاء غاب في الآونة الأخيرة، وقد يأتي اليوم الذي يصبح الدعاء غير مقبول، لأنه يدخل في سياق التحريض، وفقا للتعاريف الأمريكية.
وإذا بقينا على هذه الحال، فيا خوفي من أن يأتي اليوم الذي يفرض على المسلمين حذف آيات قرآنية، وربما سور بكاملها من باب التحريض، ولا أستبعد أيضا أن يفتي بذلك «رجال الدين الكسبة».