بدا واضحا من بدء الثورة السورية وتحولها إلى أزمة إقليمية ومن ثم دولية، أن المجتمع الدولي ليس متشجعا لإسقاط النظام لا على الطريقة الليبية ولا حتى على الطريقة المصرية.
بالنسبة لروسيا، تعتبر سوريا درة التاج في الشرق الأوسط، صحيح أن العلاقات بين البلدين في مرحلة التسعينيات وبداية الألفية الثانية كانت محل فتور، لكن ذلك يرجع إلى الانكفاءة الروسية في الساحة العالمية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وما أن أطلت موسكو بحضورها من جديد حتى بدأت تعيد ترتيب سياستها الخارجية، وجاءت الأزمة السورية لتمنح صناع القرار في الكرملين فرصة تاريخية لتثبيت هذا الحضور.
رفضت روسيا أية محاولة لإسقاط النظام السوري عسكريا لأسباب عديدة أهمها أن خسارة سوريا ستعني خسارة موطئ قدم في الشرق الأوسط إلى أجل غير مسمى، وبالتالي خسارة امتيازات سياسية في بقعة جغرافية تعتبر الأهم في العالم، خصوصا أن موسكو لم يعد لها أي حليف استراتيجي في المنطقة منذ سنوات طويلة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن سوريا خارج المفكر فيه بالنسبة لدائرة الحلفاء، فواشنطن تدرك تماما أن سوريا بحكم تكوينها السياسي والقومي لا يمكن أن تكون ضمن الفلك الأمريكي، وبالتالي لا يوجد ثمن ستقبضه واشنطن إن تم إسقاط النظام، بل على العكس إن إسقاط النظام عسكريا سيؤدي إلى فوضى عارمة في الشرق الأوسط ليست في مصلحتها ولا في مصلحة إسرائيل وكثير من دول المنطقة.
ما تسعى له واشنطن هو أن تتحول سوريا إلى دولة ضعيفة مستغرقة في همومها المحلية، وغير قادرة على فرض أجندات سياسية إقليمية، وعليه فإن أعلى ما تطمح له واشنطن هو تثبيت حضور داخل البلاد عبر وسطاء محليين، وسلوكها العسكري والسياسي يوحي أنها ليست بصدد العمل على تثبيت حضور مستدام كما هو الحال مع روسيا.
التغيرات التي طرأت على مواقف المجتمع الدولي من مسألة الحكم في سوريا يمكن تلمسها منذ اجتماع فيينا الأول في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2015 ومن ثم في اجتماع فيينا الثاني في 14 تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام، ثم في القرار الدولي 2254 الذي يشكل المرجعية الأساسية للحل في سوريا، ثم اتفاق "مناطق خفض التوتر"، وأخيرا اتفاق الجنوب السوري بين الراعيين الكبيرين.
كل هذه التطورات تؤكد أن مرحلة الصراع على السلطة بالمعنى العسكري قد ولت إلى غير رجعة، والموقف الأمريكي الأخير المتمثل بوقف دعم المعارضة السورية وتدريبها وإعادة هيكلة فصائل الجنوب خير دليل على ذلك.
المقاربة الأمريكية ـ الروسية تقوم على تنظيف سوريا من الفصائل الإرهابية من أجل العودة إلى ثنائية النظام / المعارضة كصيغة وحيدة للحل السياسي.
بعبارة أخرى، يتطلب القضاء على الإرهاب في سوريا، وقف القتال بين النظام وفصائل المعارضة، كي يتم إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية بما فيها إعادة ضبط النفوذ الإقليمي داخل البلاد.
إن تنفيذ الهدن العسكرية سيسمح بإعادة هيكلة فصائل المعارضة تمهيدا لإعادة هيكلة المعارضة السياسية من أجل الوصول إلى مرحلة نشوء كتلة سياسية ـ عسكرية موحدة للمعارضة تكون ندا للنظام، وهو أمر يشكل انعكاسا للواقع الميداني الذي أخذ بالتشكل منذ فترة، فالهدن ثبتت مواقع النظام ودفعته للمضي قدما في استرجاع كثير من الأراضي، لكنها بالمقابل ثبتت المعارضة العسكرية ضمن عباءة إقليمية (تركيا، الأردن) مدعومة دوليا.
ولم تكن مصادفة أن تتضمن الهدن العسكرية نقاطا تتجاوز البعد العسكري، فقد أكد اتفاق الجنوب واتفاق الغوطة على إجراء انتخابات محلية لمنح السكان المحليين سلطة مدنية على مناطقهم، في خطوة واضحة للانتقال من مرحلة وقف إطلاق النار إلى مرحلة البناء السياسي الذي يسبق التسوية الكبرى.
وليس صدفة أن يصادق المجلس التأسيسي لـ "النظام الفدرالي" التابع لـ "الإدارة الذاتية"، على تقسيم مناطق نفوذ "الإدارة الذاتية" إلى ثلاث فدراليات (الفرات: الحسكة / القامشلي، الجزيرة: تل أبيض / عين العرب ـ كوباني، عفرين)، وقرار الجمعية التأسيسية لـ "اتحاد شمال سوريا" تحديد موعد إجراء أول انتخابات على مختلف المستويات للإدارات المحلية والمناطقية التي تديرها.
لقد أدرك حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي أن أوان التسوية قد اقترب، وأن الأمر يتطلب شرعنة وجودهم بأدوات ما فوق عسكرية.
وستكون صيغ الانتخابات المحلية هذه جزءا من الحل الذي يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، للوصول إلى تنفيذ المرحلة الانتقالية التي سيكون الأسد جزءا رئيسا منها، بل يمكن أن نضيف بناء على المستجدات السياسية خلال الأشهر الماضية واجتماعات جنيف أن الأسد سيكون أيضا في المرحلة التي تعقب المرحلة الانتقالية، كإجراء مؤقت وليس دائما.