قررت جماعة الحكم في مصر فجأة أن تتحول من جهة إدارة مصالح المجتمع إلى مكتب عمولات وسمسرة، ولم يكتفوا بإهدار المصالح بل شرعوا في تسارع شديد للإضرار بالفقراء خاصة، وكذلك باقي الفئات دونهم.
أحداث جزيرة الوراق واحدة من الأحداث الكاشفة عن انطباق وصف السماسرة على جماعة الحكم، فما جرى بجزيرتي تيران وصنافير -على خِسّته- لا يصلح للمقارنة مع ما يجري بجزيرة الوراق، فسكان الجزيرة يُقدَّر عددهم بعشرات الآلاف، كما أنهم استعمروا المكان منذ عقود طوال، وتركت لهم الدولة على مدار تلك العقود حق الترخيص، وقد ظهرت فواتير للخدمات الحكومية من قبل السكان، ما يعني رضا الدولة عن الوجود هناك، لكن السمسار الذي قال من قبل "مش هتدفع؟ هوريك الي عمرك ما شوفتهوش، أنا مفيش حاجة عندي ببلاش" وصاحب النظريات الاقتصادية غير المسبوقة -كمشروع سيارات الخضار واللنض الموفرة "مصابيح الإضاءة"- يستمر في صك ممارسات غير مسبوقة في السياسة والأمن والاجتماع، وجمعه لتلك الانفرادات نابع من تصوره بأنه "طبيب الفلاسفة".
هذا الذي فرّط في "مضيق" وقيمة المضائق معروفة لدى كل علماء السياسة والعسكريين بطبيعة الحال، وهذا الذي يخرج الفقراء وأهل بلده من أرض استعمروها لعقود لأجل دولارات ممن عاونوه على الوصول لمكانته الحالية، وهذا الذي بسط يد قواته للقتل والاعتقال دون رقيب أو حسيب، يأتي اليوم ويحشد قواته قبالة جزيرة الفقراء، ليحيلها منتجعا للأغنياء، ونرى مشهدا جديدا من مشاهد التناقضات المصرية منذ حكمها عسكر تموز/ يوليو 1952 إلى عسكر تموز/ يوليو 2013، فيصبح لدينا هذا المنتجع الذي تبعد عنه مناطق فقيرة وعشوائية على مرمى حجر، والسمسار غير مشغول بأحوال الساكن الحالي، بقدر انشغاله بأحوال الساكن الجديد الذي سيدفع.
يذكّرنا تصرف السمسار برائعة الراحل أحمد زكي "البيه البواب" وهو الذي جسّد صورة السمسار الذي ينتهز الفرص، إلا أن طموحه أكبر من قدراته العقلية، ومصيره في النهاية أنه عاد لمكانته الطبيعية "حارس عقار"، وبالطبع لا انتقاص من أي وظيفة يتكسب صاحبها من حلال، لكن المقارنة من حيث القدرات والإمكانات مع السلوك الطموح غير الأخلاقي والأهوج.
مرّ السمسار في حياته العامة في مرحلة الضوء بثلاث مراحل: أولها مرحلة الموظف صاحب الصوت الخفيض بتصنّع مستفز وذي العين المنخفضة - ولا تزال تلك الصفتان غير منفكتين عنه- والثانية مرحلة شراء الولاءات بعقد صفقات لا توجد لها أولوية وطنية بل أولوية شخصية، لتثبيت الحكم الجديد المنتقَصة شرعيته، والثالثة مرحلة سمسار الأراضي وهي المرحلة التي تزامنت مع قدوم سمسار آخر رئيسا لدولة كبرى، ويبدو أنهما توافقا سويا على تبادل الأراضي وبيعها والتفريط فيها، وفقا لمصالح مشتركة دون الاكتراث بأي مصالح أخرى.
حتى كتابة هذه السطور لا يزال سكان الجزيرة صامدين في وجه قوات الأمن، رغم سقوط أحدهم صريعا من طلقات الخرطوش التي استعملها الأمن لفض التجمعات الرافضة لإزالة بيوت السكان، ورغم وجود القوات على كامل الضفاف المقابلة للجزيرة، ومنعهم على فترات لأشكال الخروج والدخول كافة من وإلى الجزيرة، دون اكتراث بأحوال المرضى والموظفين والاحتياجات الطبيعية للسكان.
عدم الاكتراث بالاعتبارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرهم أصبح مؤكدا بحوادث متعددة، كقتل المئات في يوم واحد وفي نطاقات متعددة، وإجراءات ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي التي أفقرت المجتمع بتسارع كبير، والخطاب الإعلامي التحريضي دائما بين نسيج المجتمع وتقسيمه على اعتبار الأفكار، وتغيير وظيفة الجيش وعقيدته بإدخاله في أتون المشاكل الداخلية سواء كانت أمنية أو خدمية، وتهجير المصريين في سيناء وإشعال حرب مفتعلة ضد مواطني البلد، ومحاولة إخضاع كل المؤسسات لسلطة واحدة والإخضاع ليس بمعنى التبعية الإدارية، بل بمعنى إلغاء كل الآراء مقابل رأي واحد، وأخيرا عملية الإجهاز على كل مصادر القوة للوطن بما فيها القوة الناعمة، كالأزهر الذي اعتُقل بعض طلابه أو خريجيه في صفقة مع النظام الصيني الدموي كذلك.
أصبح الوطن أمام حالة مرعبة من لهث حاكمها وراء المال والشرعية أيا كان مصدرهما وأيا كانت الكيفية، وحجم الإشكال ليس في مجرد النزوع للمال وطلب السلطة، بل خطورته في عدم وجود من يمنع ذلك بين الأجهزة القوية التي تملك المناقشة أو المنع، وما يجري في جزيرة الوراق لن يكون تصاعد الأحداث فيه مستغربا، فقد اختبرنا العقلية التي ترتكب المجازر دون حياء وتجد من يبرر لها بكل انحطاط.