منذ قرابة العشرين عاما والمصري علي عبد الله (40 عاما) يقف أمام ألسنة اللهب يلتقط أرغفة الخبز من داخل الفرن، ويرتبها بسرعة ملفتة على طاولة مصنوعة من سعف النخيل، ليجني في نهاية اليوم ما لا يزيد على مئة جنيه (نحو 5 دولارات) مقابل ما يلاقيه من حر النار وقيظ الصيف داخل المخبز.
درجتان من سلم متهالك في أحد شوارع محافظة الجيزة، غرب القاهرة، تأخذك إلى الأسفل، حيث مقر الفرن، الذي يعمل فيه عبد الله منذ أن جاء من مسقط رأسه محافظة المنيا (وسط البلاد) إلى العاصمة، بحثا عن عمل.
عبد الله، الذي يعمل "سحلجي"، يرص أرغفة الخبز الخارجة من نار زاد حرها مع فصل الصيف وموجات الحرارة المرتفعة في
مصر.
لا وقت للمرض
لا يعرف
الخبازون في مصر، والمنتشرون في حوالي 25 ألف مخبز، وفق تقارير إعلامية محلية، أوقاتا للراحة المرضية، "فمن يقعده المرض يوفر صاحب المخبز خبازا غيره، وربما لا يجد مكانه متاحا بعد تعافيه"، هكذا يقول عبد الله.
في الخامسة صباحا يبدأ زملاء عبد الله مهمة عجن الخبز وتجهيزه، فيما يسخن هو الفرن في السابعة، حتى يبدأ مهمته، ويظهر الخبز للزبائن، على أن ينتهي يومهم في الثالثة عصرا.
فيما يعمل بعضهم وقتا إضافيا في الفرن نفسه أو في فرن آخر، ليستطيع توفير نفقات المنزل في ظل أوضاع اقتصادية متردية، في بلد يتجاوز عدد سكانه الـ 93.3 مليون نسمة، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
لا عمل آخر
يتنهد الشاب الأربعيني بعد أن كست وجهه موجة من التجهم، ليبدأ في سرد معاناته مع مهنته، التي اضطرته مصاعب الحياة إلى العمل فيها.
يقول عبد الله إن "العمل يتحول إلى قطعة من الجحيم في شهور الصيف، فيصبح الخبازون بين نارين، وعليهم استخلاص أرزاقهم من قلب اللهب".
يعبر الخباز المصري عن سخطه عن عمله، الذي لا يعطيه مقابلا ماديا يكفي أسرته، ولا توجد فيه أي ضمانات للسلامة، قائلا: "فكرت أن أترك العمل أكثر من مرة، لكن لا مفر (لا بديل)".
في كل مرة يفكر فيها عبد الله في تغيير مهنته تظهر في مخيلته أسرته المكونة من خمسة أفراد، هم أربعة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة وزوجة، يقطنون في قريته بالمنيا، وينتظرونه كل شهر أو شهرين بمال لا يكاد يكفي، وأحيانا يقترض من صاحب المخبز، خاصة مع اقتراب المدارس والأعياد، حيث تزيد النفقات.
وبحزن يضيف: "لا يمكن أن أغير عملي؛ فأنا لا أجيد غيره، لكن نطلب أن تضعنا الحكومة ضمن أولوياتها، فأنا أتقاضى أجرا بين 70 و100 جنيه (حوالي 4 إلى 5 دولارات) يوميا حسب إنتاجية الفرن".
"العمل في المخابز المصرية غالبا بـاليومية (أجر يومي)، فلا يوجد فيه راتب شهري ولا تأمينات اجتماعية ولا صحية، فبدون عمل لا مال، والإجازة غير مدفوعة الأجر، ومن يمرض هنا يموت أو ينقله ذووه إلى مستشفى قريب، فلا يعبأ به أصحاب العمل، إلا من رحم من أصحاب المخابز"، وفق عبد الله.
يحاول الخباز الشاب ورفاقه التعايش مع ألسنة اللهب اليومية، عبر تناول كميات أكبر من المياه والمشروبات، كالعصائر وغيرها، ويفضلون ألا تكون باردة أكثر من اللازم، حتى لا تؤثر عليهم سلبا.
مخاطر "الصنعة"
يلتقط طرف الحديث زميله سلامة فؤاد، وهو يعمل في عجن الخبز منذ عام 1990، ووقتها كان مراهقا لا يتعدى عمره الـ15 عاما، حين ذهب مع والده لتعلم "الصنعة" ومساعدة أسرته، القاطنة في حي بولاق الدكرور الشعبي بمحافظة الجيزة.
يحكي فؤاد عما يحدثه ارتفاع الحرارة، قائلا لوكالة الأناضول: "من الوارد أن يتعرض أحدنا لـهبوط حاد في الدورة الدموية، ووقتها يسرع من بجواره إلى إبعاده عن مكان الفرن، ويتولى آخر إتمام عمله، حتى يتعافى ويعود إلى العمل".
ولا تقتصر مخاطر العمل أمام ألسنة اللهب على نوبات الهبوط المتكررة، وفق فتحي مسعد، مدير مستشفى حميات العباسية (حكومية - وسط القاهرة)، إذ يقول إنه "من الوارد أن يتعرض العمال، الذين يقضون فترات طويلة أمام النيران، لالتهابات متكررة بالشعب الهوائية، بسبب تغيير الجو فجأة، من شدة الحرارة إلى الوضع الطبيعي في حال خروجهم إلى الشارع، فضلا عن أمراض حساسية الصدر، بسبب العادم القادم من الأفران".
ويضيف مسعد، في تصريحات، أن "بعض العمال يتعرضون للتليف الرئوي، وعليهم تهوية المكان جيدا، والانتظار قليلا بعد الانتهاء من العمل قبل الخروج إلى الشارع، إضافة إلى تناول السوائل بشكل متكرر".
شاي أو عصير
لكن الخبازون عادة لا يعبأون بنصائح الأطباء ولا خبراء الأرصاد الجوية، وفق مدحت شناوي (33 عاما)، وهو فران، حيث يقول: "كله على ربنا.. هو كوب شاي أو كوب من عصير القصب نطفئ به نار الحرارة، التي يشعلها الفرن بأجسادنا، أو الماء، ثم نخرج دقائق لالتقاط أنفاسنا بعيدا عن صهد (الحرارة العالية) الفرن".
وعادة ما تشهد القاهرة في الصيف ارتفاع درجة الحرارة إلى أكثر من 40 درجة مئوية، وهو ما ينتج عنه وفيات أحيانا، وكان أشدها عام 2015 عندما أعلنت وزارة الصحة وفاة 42 شخصا، فيما أعلنت حالة وفاة واحدة حتى الآن في 2017.
الموت جوعا
المعاناة نفسها يكابدها العاملون في ورش تقطيع ولحام الحديد بمصر، "فلا يحصلون إلا على يوم وحيد كعطلة أسبوعية، وعادة تكون يوم الأحد"، حسبما يقول سعيد مبارك (45 عاما)، وهو عامل في إحدى الورش بمنطقة بين السرايات في الجيزة.
يشتكي مبارك، في حديثه من "تدني الأجور مقابل ارتفاع الأسعار، الذي فاق كل الاحتمالات.. خائف من مستقبل مظلم، في عمل يعتمد على قوتي.. لو ضعفت قوتي سيكون مصيري الموت من الجوع، لعدم وجود معاش (راتب تقاعد) ولا تأمينات اجتماعية تضمن لي حياة كريمة عند الشيخوخة أو مصاريف أبنائي في حال موتي".
وتعيش مصر أزمة اقتصادية طبقت على إثرها برنامجا إصلاحيا، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يشمل رفع الدعم تدريجيا؛ ما تسبب في موجة من الغلاء، تضررت منها الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل.
ويقول مبارك إن "الأوضاع المعيشية في السابق كانت أفضل بكثير، فأنا حاليا مجبر على عدم شراء سلع كنت أشتريها لأسرتي.. الآن، أشتري الضروريات فقط".
ويضيف العامل المصري: "منذ سبع سنوات كانت يوميتي (أجري اليومي) لا تتجاوز الـ35 جنيها (حوالي دولارين) وكانت تكفي وتزيد، أما الآن، ورغم أن اليومية أصبحت أكبر ثلاث مرات وأكثر، إلا أنها لم تعد تكفي للمواصلات (وسائل الانتقال) ومصاريف المنزل والعلاج والدراسة".
عمال "اليومية"
مشاكل عمال المخابز والحدادين في مصر لا تنفك عن إجمالي الأزمات التي تعانيها العمالة غير المنتظمة، والتي تمثل، وفق محمد عبد القادر، مؤسس نقابة العمال غير المنتظمين (غير حكومية تأسست عقب ثورة كانون الثاني/ يناير 2011) "حوالي 60% من القوى العاملة في مصر"، والمقدرة بنحو 27 مليون عامل، وفق إحصاء رسمي.
عبد القادر يضيف أنه "لا يوجد إحصاء رسمي بعدد العمال غير المنتظمين أو من يسمون بعمال اليومية في مصر، وهم يعانون من غياب التشريعات المنظمة لعملهم، ومحرومون من حقوقهم التي تكفلها الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالعمل، والتي وقعت عليها مصر، فلا يوجد تأمينات صحية ولا اجتماعية خاصة بهم".
ويتابع بقوله إن "العمالة غير المنتظمة تعاني من غياب التشريعات والقوانين، التي تكفل لهم حياة كريمة، وحتى عندما يحصلون على أحكام قضائية تنصفهم لا يتم تطبيقها على أرض الواقع".
ووفق إحصائية رسمية للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في 2016 فإن 27.8% من السكان في مصر فقراء، ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء.
ومرارا، أعلنت الحكومة المصرية أنها تقف في صف
الفقراء ومحدودي الدخل، ومؤخرا قررت صرف "علاوة غلاء" (مبلغا ماليا)، لتفادي الآثار الاجتماعية لبرنامج الإصلاح
الاقتصادي، تطبق بداية من تموز/ يوليو الجاري، إلا أن عبد القادر يوضح أنها "لم تشمل العمالة غير المنتظمة، ولن يطبقها أصحاب العمل".