لم تكن النكبة التي حلت بشعب فلسطين عام 1948 صدفة أو بفعل قوى الصهاينة فقط، وإنما كانت بمساهمة قيادية عربية عموما وفلسطينية خصوصا.
لم يكن الصهاينة معزولين عن المحيط العربي السياسي في حينه، ولم يكن قادة العرب عموماً بعيدين عن المشاركة في المشروع الصهيوني ولو بصورة غير مباشرة. فمثلا، لم تتحرك القيادات العربية بمواجهة بريطانيا بعد أن علمت بتصريح بلفور الذي نص على التعاطف مع الصهاينة في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
حتى الدولة العثمانية كانت عاجزة تماماً عن المحافظة على فلسطين، وكان اليهود يهاجرون إلى فلسطين ويقيمون المستوطنات تحت سمع وبصر المسؤولين الأتراك العثمانيين. وكان من المعروف أن المبعوثين الأجانب لدى الدولة العثمانية كانوا يشترون الأرض وينقلون ملكيتها لليهود، وأكبر دليل على ذلك تلك المساحات الكبيرة التي اشترتها دول أوروبية في القدس.
خاض الفلسطينيون إضراباً عاماً ضد الانتداب البريطاني عام 1936 استمر حوالي ستة أشهر، وهو أطول إضراب شعبي في التاريخ، لكنه فشل على الرغم من أن القيادات الفلسطينية أقسمت أن تستمر في الإضراب حتى تحقيق استقلال فلسطين. تحركت حينئذ عدة قيادات عربية على رأسها أمير شرقي الأردن الذي أصبح ملك الأردن فيما بعد، والملك عبد العزيز آل سعود والملك فاروق ملك مصر، وأقنعوا الحاج أمين الحسيني بوقف الإضراب لأن " الصديقة بريطانيا ستلبي مطالب الفلسطينيين".
وانتهى الإضراب بلا طائل. ومع انتهاء الإضراب أخذت الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1936 أيضاً تترنح. لقد فقدت زخمها الشعبي الضروري لاستمرارها. أما عام 1948 وقبل قيام إسرائيل، تقدمت القوات العربية على مختلف جبهات القتال ضد الجيش الصهيوني، لكن قادة العرب قبلوا بالهدنة وأوقفوا القتال مدة شهر. وقد رأى شعب فلسطين كيف انسحبت القوات العربية من المناطق التي سيطرت عليها بعد انتهاء الشهر وتمركزت في أغلبها في المناطق المعروفة الآن بالضفة الغربية.
رأي الناس، وكما استنتجت أنا من الأبحاث التي قمت بها أن قادة العرب أقالوا قادة الجيوش الميدانيين واستبدلوهم بقيادات جديدة تحمل خرائط عسكرية جديدة توضح أماكن تموضع عسكرية جديدة. لقد تم تسليم البلاد للصهاينة، وغالبا كان ذلك ضمن صفقات سياسية بحيث تضمن بريطانيا بقاء أنظمة الحكم القبلية مقابل محافظة الأنظمة السياسية على إسرائيل. لم تكن القيادات الفلسطينية أحسن حالا من القيادات العربية. ومن المعروف أن أغلب تلك القيادات باعت أراض لليهود، ولا يوجد ما يشير إلى أن الحاج أمين الحسيني كان ضالعاً في أي أمر بيع.
جدلياً، لم يكن من المتوقع أن تعمل قيادات صنعتها بريطانيا على المحافظة على فلسطين لأن العروش مرتبطة بالإدارة البريطانية. وجدلياً لا يمكن للأنظمة العربية وإسرائيل إلا أن يتعاونوا لأنهم صنيعة سيد واحد. إسرائيل وأغلب أنظمة العرب من منبت واحد، وليس بإمكان أي طرف أن يشذ عن إرادة الصانع.
ولهذا كان من المفروض أن يتوصل الشعب الفلسطيني إلى الاستنتاج الصحيح منذ عام 1948. لكن لا أظن أنه توفر للشعب في حينه من يستطيع ربط العلاقات الجدلية والاستناد إلى المحاورات الفلسفية النظرية والميدانية. لقد غابت النباهة، ولو لم تغب لحصّن الشعب الفلسطيني نفسه وصان أبناءه من هجمات وآلام السنين التي تلت، ولطور رؤية ثاقبة في كيفية العمل نحو تحرير الأرض واستعادة الحقوق.
كيف لأنظمة حكم تستظل بالمظلة الأمنية الأمريكية الآن، أو لا تستطيع صرف رواتب آخر الشهر بدون مساعدات مالية غربية أن تقف ضد إسرائيل؟ جدليا لا يمكن مهما بلغت تصريحات الحكام العرب ضد إسرائيل. هذه مسألة قطعية غير خاضعة للنقاش والجدل، وهي أشبه ما تكون بمعادلة رياضية محكمة.
ولهذا تبقى العلاقات العربية الإسرائيلية مشمولة بالجدلية المنطقية هذه. التعاون العربي الإسرائيلي، والفلسطيني الإسرائيلي نتيجة ضمنية مبنية تركيبياً في المال الغربي والحماية الغربية.
أغلب القادة العرب الذين تعاطوا مع النكبة عام 1948 ما زالوا موجودين بقبائلهم حتى الآن وليس بشخوصهم. والأبناء ليسوا إلا مجرد امتداد للآباء والأجداد. وهذا ينطبق إلى حد كبير على الفلسطينيين إذ أن العديد من أبناء الذين باعوا أراضي لليهود يتسلمون الآن مواقع المسؤولية، وهم الذين يطبعون مع الاحتلال ويصرون على التنسيق الأمني، وهم أصدقاء بريطانيا والقنصل الأمريكي في القدس.
أعلن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في مدينة غزة الاستقلال في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1948، وأعلن الدستور الفلسطيني الذي نص على إقامة نظام حكم نيابي، وتشكلت حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، وبقي الحاج أمين الحسيني الزعيم الأول. وعقبها قام النظام المصري بقيادة الملك فاروق باحتجاز الحاج أمين الحسيني في القاهرة، وأرسل قوة عسكرية إلى غزة واعتقلت رئيس وزراء فلسطين وأعضاء الوزارة ونقلتهم إلى القاهرة، وأنهت بذلك وجود الحكم الفلسطيني.
الحاضر هو امتداد الماضي، ولم يكن من المتوقع جدلياً أن يشذ قادة العرب اليوم عن قادة العرب أمس. لا تختلف المبادرة العربية التي أطلقها الحكام العرب من بيروت عام 2002 عن الهدنة التي قبلوها عام 1948. ولا تختلف الهزائم التي مني بها العرب عبر عشرات السنوات بعضها عن بعض. باستثناء حرب عام 1973. لم يكن هناك قتال حقيقي، وغالبا كان يخوض حكام العرب القتال لكي يحققوا الهزائم. النصر ممنوع، وعلى الحاكم أن يخوض المعارك لكي يُهزم لأن في الهزيمة ما يقنع جماهير الأمة العربية بأن النصر على إسرائيل مستحيل والأفضل البحث عن حل سياسي ولو على حساب شعب فلسطين.
ولم يكن الشأن الفلسطيني مختلفاً. لقد قادوا شعب فلسطين من هزيمة إلى هزيمة ومن إحباط إلى إحباط، ومن فشل إلى فشل لكي يقتنع بعض شعب فلسطين في النهاية باتفاق مخز ومذل كاتفاق أوسلو، ولتخرج جماهير فلسطينية إلى الشارع محتفلة بهذا "الإنجاز" الساقط. وقد تم هذا دائماً بشعارات وطنية وأهازيج ثورية. والملاحظ أنه على المستويين العربي والفلسطيني، لا يوجد هزيمة نكراء مني بها العرب إلا كانت مظفرة. كل هزائمنا انتصارات، إلا من الانتصار الوحيد الذي حققناه وهو انتصار تموز عام 2006.
لقد أصر الحكام على أن تموز هزيمة، وحاولوا إقناع إسرائيل بأنها هي التي انتصرت. هذه قيادات استمرأت الهزيمة واستدخلتها، ولا يمكن أن تتلذ إلا بالهزائم، وعلينا ألا نتوهم أنها قيادات يمكن أن ترتاح لهزيمة الكيان الصهيوني الذي يشاركها الجهود في استمرارها في مواقعها القيادية التي تشكل مراكز الخيبات والإحباطات.
بالرغم من هذا، تطورت لدينا تنظيمات وعت الحقيقة المرّة وقررت أن تتخطى مواصفاتها لتصمم مواصفات جديدة باتت تشكل ردعا قويا لإسرائيل. تطور لدى العرب حزب الله وحركات حماس والجهاد الإسلامي ولجان المقاومة الشعبية. حزب الله يشكل ردعا لإسرائيل وهو قوي ويستمر في مراكمة القوة. والمقاومة الفلسطينية أذهلت العالم بصبرها وقدراتها العسكرية ومعنوياتها العالية في ثلاث حروب متتالية على غزة.
لم تعد إسرائيل قادرة على تحقيق انتصارات إلا ضد أنظمة عربية، أما أمام المقاومة فمصير جيشها الاندحار. كان العرب أكثر عددا والصهاينة أكثر نفيرا، والآن العدو الصهيوني أكثر عددا والمقاومة أكثر نفيرا. لقد أثقلت الهزائم شعب فلسطين ونقلته من تشرد إلى تشرد آخر، لكن الأمل باق، والرجاء وفير، والله ينصر من ينصره وللظالمين عاقبة ظلمهم وتآمرهم.
2
شارك
التعليقات (2)
عبد الرحمن الطرابلسي
الأحد، 02-07-201709:28 ص
كنت من أشد المعجبين بمقالات ومواقف الدكتور عبد الستار الوطنية والجريئة ولكن موقفه المدافع عن النظام السوري وحزب الله جعلني أشعر بالضيق والحزن الشديد حين أقرأ له. أنت أستاذ في العلوم السياسية وتدرك تماما أن مصلحة النظام السوري وحزب الله في ركوب موجة الدفاع عن قضية العرب والمسلمين الأولى فلسطين. لقد ثبت بالدليل القاطع وبعيدا عن التحليلات السياسية أن النظام السوري هو قمعي وهمجي ومجرم بحق شعبه وحزب الله عبارة عن أداة وصنيعة إيرانية تساند وترتكب المجازر بحق الشعب السوري وتعمل وفق أجندة لتحقيق مصالح ولاية الفقيه في منطقتنا. يا سيدي أنت تعلم جيدا تاريخ فلسطين وتعلم من حررها ومن فتحها وتعلم مكانتها وقدسيتها فهل تعتقد أن أيدي ملطخة بدماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ وشباب سوريا ستحرر بيت المقدس ؟! لو كنت موضوعيا لتكلمت عن مجازر النظام السوري وحزب الله في سوريا ومجازر الميليشيات الايرانية في العراق وسوريا. اما أن تذكر حرب 2006 وتتناسى ما بعدها فهذا انحياز جائر ما كان ليصدر من انسان مثقف وفلسطيني يعيش تحتى الاحتلال ويعلم معنى الظلم والقهر والقتل. كل الشعوب العربية كانت تؤيد مقاومة الحزب في عدوان 2006 لكن بعد وقوف الحزب مع طاغية ودفاعه عنه بالقوة والزج بشبابه لقتل السوريين زال القناع وبانت الوجوه على حقيقتها وأصبح الشارع العربي يكره هذا الحزب ومن وراءه كرها لا يعلمه إلا الله. أتمنى من الدكتور قاسم ان يكون موضوعيا ويعبر عن نبض الشعوب العربية وان يقف مع الحق ومع الإنسانية التي تذبح كل يوم على أيدي من زال يمدحهم.
عبدالله
الجمعة، 30-06-201710:29 ص
حزب الله؟؟؟لقد كان (مقاومة) قبل ان يلغ في دماء السوريين تحقيقا للهيمنة الايرانية...