قضايا وآراء

قتال القنوات وما أدراك!!

محمود عبد الله عاكف
1300x600
1300x600
منذ اختراق وكالة الأنباء القطرية ونسبة تصريحات غير حقيقية للشيخ تميم، وما تلاها من نشر تسريبات لسفير أبو ظبي في واشنطن، أي منذ اكثر من ثلاثة أسابيع، لم ترض أبوظبي أن تتعامل قطر معها الند بالند. فسعت إلى السعودية، ممثلة في محمد بن سلمان وتابعتها البحرين ومصر وموريتانيا... إلخ، وقامت بقطع العلاقات مع قطر.

تفاقمت الأحداث بعد قرار قطع العلاقات مع قطر وكأن العالم قد قُلب رأسا على عقب، وبدأنا نشهد نوعا جديدا من القتال والحروب، وهو قتال وحروب القنوات، وهو في الحقيقة يمثل حلقة من حلقات المواقف الكوميدية التي كنا نراها في التلفزيون الأمريكي خلال الثمانينيات من القرن المنصرم؛ لأنني أعتقد أن العالم أجمع يضحك علينا العرب والمسلمين، وهو فاغر فاه من شدة الكوميدية والفكاهة التي يراها أمامه؛ لأنه يرى إمارتين، وهما أبوظبي وقطر، تتعاركان وتتصارعان وتبذلان الجهد والعرق من أجل رضى السيد الساكن بعيدا. في هذه الصفحات سوف أتناول، من خلال أسلوب وتقنية "الفلاش باك"، خلفية الأزمة الحالية.

في صباح أحد أيام صيف 1995 استيقظنا على أخبار تغيير في الحكم في إمارة قطر، وتولى مقاليد السلطة الشيخ حمد بن خليفة بدلا من والده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني المتواجد خارج البلاد وقتها، وقيل وقتها إن ما حدث هو انقلاب أبيض. كما قيل وقتها إن هناك دعما أمريكيا للانقلاب لبداية عصر جديد في منطقة الخليج، ولفتح علاقات مع إسرائيل. وبالفعل بدأت قطر في القيام بدور مختلف في منطقة الخليج، وكانت سابقة في اتصالاتها بالكيان الصهيوني بدعوات مختلفة، بل وقامت بدعوة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، وتم استقباله في الدوحة والترحيب به من قبل أميرها وشيوخها. كما بدأت الدوحة ما أطلق عليه حوار مع بعض الفصائل اليهودية. وكان هذا الدور يعتبر جديدا في منطقة الخليج، وكنا نرى تبرما في باقي منطقة الخليج، وصل لحد مساعدة بعض الدول الخليجية الأخرى في محاولة انقلاب لصالح الأمير الوالد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني في مواجهة ابنه الشيخ حمد، ولكن تم اكتشافها وتم القبض على المشاركين فيها وتم الحكم عليهم بالسجن لمدد مختلفة. واستمرت الدوحة تقوم بالدور الملقى على عاتقها وتظهر في بعض المواقف بالمتناقض، حيث تؤيد شعب غزة وتستقبل قيادة حماس بعد خروجهم من سوريا وفي نفس الوقت تستمر في علاقاتها بإسرائيل بشكل علني، وكأن هذه نقرة وتلك أخرى.

بعد استتباب الأمر وبعد فشل الانقلاب المضاد وترسخ الحكم للابن، بدأت مظاهر الحماية الأمريكية بالاتفاق على قاعدة أمريكية في قطر واتفاقيات دفاع مشترك، وغير ذلك من سلاسل. تلا ذلك مباشرة خطوة كانت جديدة وقتها، وهي تأسيس قناة تلفزيونية وريثة لقناة "بي بي سي" العربية في نسختها الأولى، والتي أوقفت في بداية 1996، وتم تأسيس قناة الجزيرة على رفاة القناة الإنجليزية، وأخذت معظم العاملين بها وبدأت تبث في تشرين الثاني/ نوفمبر 1996. حتى تلك اللحظة كان الإعلام العربي يسير على خطى الإعلام المصري، باستثناء بعض المحاولات التي بدأتها شركات سعودية في بريطانيا من أجل تقديم إعلام مختلف ويسير على النهج الغربي، وكان من المستحيل أن تقام تلك القنوات داخل الأراضي السعودية في ذلك الوقت. حتى أن قناة "بي بي سي" قد توقفت - وهي كانت في شراكة مع شركاء سعوديين - بعد بثها لأحد البرامج تناول الأوضاع في السعودية بالنقد والتحليل، مما أثار حفيظة النظام الحاكم هناك. فتم فض الشراكة بين أوربت السعودية و"بي بي سي" التي ورثتها القناة الوليدة في الدوحة. بدأت الجزيرة وعلى مدى الخمس سنوات الأولى في تقديم إعلام جديد في العالم العربي لم يعتده المشاهد العربي في القنوات العربية، وكانت تعمل دائما على استيراد نماذج الإعلام الغربي، وخصوصا القنوات الإخبارية، سواء على مستوى الشكل او المضمون. فبدأنا نرى أنواعا مختلفة من البرامج لم يكن يراها المشاهد في المنطقة العربية من خلال قنواته التقليدية.

مع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وبداية مرحلة جديدة في العالم بشكل عام والعالم العربي والإسلامي بشكل خاص، بدأت الولايات المتحدة في التعامل مع المنطقة الخليجية كأنها جزء من الحديقة الخلفية لها، يحظر على غيرها التعامل معها أو العبث فيها إلا بإذنها وموافقتها، وبدأت تستثمر التناقضات بين زعماء تلك المنطقة، وكانت أحيانا تقوى الخلافات بينهم حتى تحكم السيطرة. فبدأت الجزيرة في القيام بدور يبدو مختلفا، وصادف ذلك اختفاء اثنين من زعماء الخليج هما الشيخ زايد آل نهيان في 2004 والعاهل السعودي فهد بن عبد العزيز في 2005 (رحم الله الجميع)، وحلت محلهما شخصيتان لم تكونا على نفس المستوى من التقدير في المنطقة، وخصوصا في أبو ظبي ودبت الغيرة في قلب الحكام الجدد تجاه العلاقة القطرية الأمريكية، وتبارى الجميع في الحرص على علاقات خاصة مع الحامي الأمريكي. وحرصا على السير في نفس الطريق، قامت كل من السعودية وأبو ظبي بتأسيس قنوات على نفس المنهج، فكانت قناتا العربية في 2003، وبعدها سكاي نيوز عربية، وبدأنا نرى نفس الأنماط الإعلامية تتكرر، وحاولت الجزيرة في مرات عديدة أن تؤكد على سبقها وخبراتها في هذا التنافس، فكانت تنجح مرة وتفشل مرات. واستمرت هذه القنوات في محاولة التوسع والانتشار والصراع فيما بينها، حتى حدث مشهد ما أطلق عليه بالربيع العربي.

وكان هذا المشهد هو الذي أخرج ما كان كامنا في القلوب والبطون في هذه القنوات وسعت تلك القنوات إلى اتخاذ هذا المشهد في إثبات الذات وتحقيق الانتصار، وكما في أي حلبة ملاكمة أو مصارعة تكون هناك جولات، فكانت تفوز سكاي نيوز عربية وتابعتها العربية في جولة، ثم تفوز الجزيرة في الجولة التالية.. وساهم هذا الصراع البغيض الممقوت في تشتيت جهود ووعى أبناء الأمة العربية، وفي نفس الوقت تجاوزت هذه القنوات صفتها في كونها المتحدث باسم الإمارة أو الدولة التي تبث من أرضها إلى أن تكون هي الدولة أو الإمارة نفسها. بالطبع كان السيد أوباما الساكن بعيدا وإدارته على غير قلب رجل واحد تجاه الأحداث والمشهد الذي كنا نراه على مدى الأعوام الستة الماضية.. بداية بتونس النموذج ثم مصر وما تلاها، والمتوقع أن نظل في هذا المشهد في المدى المنظور، إلا أن يشاء الله أمرا كان مفعولا.

وكانت القنوات المختلفة تتبارى في الابتهاج والاحتفال بالجولات التي تعتقد أنها تفوز بها، والسيد الساكن بعيدا يتأمل ويتعجب من مدى الهوان الذي وصل إليه الجنس العربي ممثلا في حكامه. وفي بعض المواقف خلال هذه المرحلة، كاد الغضب أن ينفجر كما في 2014، ولكن تم التحكم فيه بعدد من التنازلات مثل إغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، وتغيرت اللهجة قليلا عن الانقلاب في مصر، وأصبح المنقلب رئيسا بناء على استشارة قانونية مدفوعة الأجر، كما تم ترحيل بعض القيادات، وهذا تدخل في الشان الداخلي بلا شك "لكن المرة دي بس لكن المرة الجاية لا يمكن أبدا"، كما كان يقول المرحوم عبد الفتاح القصري.

مع قدوم سيد جديد يسكن بعيدا يحلو له القيام بدور الأمريكي الكاوبوي، ولكنه دون أخلاق الكاوبوي المتعارف عليها، لأنه يسعى للحصول على المال بأي شكل وأي وسيلة وتاريخه يؤكد ذلك. وكان قد وعد في بداية عهدة أن رحلته الخارجية الأولى ستكون لإسرائيل، ولكن المال غيّر وجهته واتجه إلى العربية السعودية. ومع أن هذا السيد باتت ولايته منتهية بحكم مآلات الأحداث، وأن هذا أصبح واضحا للعيان، إلا أن قنوات الخليج ممثلة في حكامه لا يزالون يتعامون عن ذلك ويراهنون عليه. كما أن ظهور شخصية شابة أخرى جديدة على الساحة الخليجية ولها تطلعات، ولمحاولة إثبات الذات سريعا وتأكيدا لأهمية عودة الروح، تم تسليمه مقاليد كافة ألأمور وجوانب الحكم في العربية السعودية، وبات يحمل تفويضا من أبيه لإدارة البلاد. ونتيجة لعدم وجود الخبرة، كانت هذه المواقف غير المحسوبه والمتضاربة وكذلك ضخ الأموال الضخمة من أجل رضا السيد الجديد بالتكرم بتغيير وجهته الأولى إليهم بدلا من إسرائيل. وقد لاقى ذلك هوى من إمارة أبو ظبي، واستطاع أميرها المتسلط والمتحكم في توجيه الأمير الشاب محمد بن سلمان ليصطفا معا في مواجهة قطر.

وإذا كانت ازمة 2014 قد تم استيعابها بقبول العاهل السعودي السابق باستقبال أمير قطر مع أمير الكويت، وتم تقديم التنازلات وقبول التدخل في الشؤون الداخلية لإحترام فارق السن، إلا أن هذه المرة لم يتح لأمير قطر الزيارة وفي نفس الوقت فإن الهدف هو كسر الانف وإذلال الكرامة والكبرياء.

وما زلنا نعيش ما يأسف له كل عاقل.. صراع الدول/ القنوات، حتى أن العالم الغربي أصبح يتهكم على ما يحدث من الطرفين، وتقوم كل دولة من الدول المتصارعة ممثلة في قنواتها بتوظيف التصريح أو البيان الغربي لمصلحتها. فعندما يغرد ترمب بشيء لصالح السعودية وأبو ظبي؛ يفرح معسكر العربية وسكاي نيوز ويهلل، وإذا اصدر وزير خارجيته بيانا لصالح الجانب الآخر هللت الجزيرة وأعادت البيان عشرات المرات. حتى عندما يكون التصريح من نفس الشخصية، مثل ما صرحت به رئيس الوزراء البريطاني تريزا ماي، ونقلته رويترز، هللت له العربية وسكاي نيوز أولا؛ لأنها من خلاله تنصح قطر بالبعد عن تمويل "العنف والإرهاب". ولم تمض ساعات ونقلت رويترز مرة أخرى تعديلا للتصريحات، لم يتناول ما قالته في المرة الأولى، وهنا جاء دور دولة الجزيرة في الفرح والتهليل. والجميع يضحك - كما ذكرت من قبل - على الطرفين ولا يهمه إلا الحصول على أموال الطرفين. فهذا الجانب أو ذاك يدفع مليارات الدولارات من أجل الحصول على تصريح من هنا أو من هناك. وما قاله وزير الدفاع الأمريكي بعد توقيعه على صفقة الطائرات مع وزير دفاع دولة الجزيرة قطر دليل على ذلك، فعندما سُئل عن الموقف الأمريكي من الصراع الخليجي، أجاب مبتسما ومتهكما، وهو يسير ودون اهتمام بأن أمريكا سوف تتدخل لحله، وذلك لأن ما يهمه قد تم بالتوقيع.

كلمة أخيرة أن هذه الأزمة التي نعيشها وما وصلت إليه من تدني وخبل من كلا الطرفين سوف يُزيد قناعة الشعوب العربية والإسلامية بان حكامهم هم مجموعة من غير العقلاء الذين ينفقون أموالهم وأموال المسلمين والأجيال القادمة فيما لا طائل من ورائه إلا رضا السيد الساكن بعيدا. وأتصور أن الطرفين ما يزالان يلعبان في الحديقة الخلفية للحامي الأمريكي وهم يعلمون ذلك جميعا احدهم يعتقد انهم يجب أن يظلوا جميعا في نفس البقعة من الحديقة حتى لا يزعجوا السيد والطرف الأخر يرى أن هناك مساحة في الحديقة يمكن اللعب فيها للتفريج عن السيد الساكن. ويسمون ذلك عدم الوصاية او التدخل في الشؤون الداخلية وحرية واستقلالية القرار. وهذا يدفعني لسؤال هؤلاء هل لو تقدمت جماعة الإخوان المسلمين العالمية بطلب إلى السلطات القطرية في الدوحة للموافقة على تأسيس كيان إسلامي عالمي معلن باسم جماعة الإخوان المسلمين ليكون فرعا لها فهل ستوافق قناة الجزيرة ام أن السلطات ستنتظر الرد من السيد الساكن بعيدا؟ أم أننا سنسمع مقولة الفنان القصري مرة أخرى؟ أم أننا مقبلون على تغيير جذري في المنطقة؟؟

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
التعليقات (0)