قضايا وآراء

خمسون عاما على هزيمة يونيو/ حزيران

محمد مالكي
1300x600
1300x600
انقضىَ نصفُ قرن على ما سمي في الأدبيات العربية " هزيمة 05 يونيو/ حزيران 1967"، وهي الحدث البارز والعميق الذي رسّخ الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، بل يمكن القول أن دور هذه الهزيمة كان أكثر وقعاً وتأثيرا من قرار تقسيم فلسطين)1947(، والنكبة الأولى للجيوش العربية عام 1948، كما شكل منحى جديداً في علاقة العرب بذاتهم الجمعية، وفي  صلتهم بمحيطهم الإقليمي والدولي. ولئن وسِمتها بعضُ النخب العربية ب" النكسة"، في إشارة إلى أنها عثرة، أو كبوة جواد، سرعان ما يقع تجاوزها، والتخلص من مفعولها، فإنها في الحقيقة هزيمة بالمعنى العميق لمصطلح هزيمة، تعرّت معها حقيقة المؤسسة العسكرية وعقيدتها القتالية، وتوارت معها  شعارات " الثورة"، والبناء القومي الوحدوي"، و " إسرائيل المزعومة"، وما إلى ذلك من الخطابات التي سادت فوران المجال السياسي العربي، لاسيما ما بين 1952، وحتى منتصف ستينيات القرن الماضي.

ترك الراحل "ياسين الحافظ" (1930 ـ 1978) أعمالاً رائدة، رغم أن المرض الخبيث لم يمهله كثيرا، من ضمنها مؤلفه الموسوم " الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة"، الذي يعد في الأصل تجميعا لمقالات نشرها على  مدار عشر سنوات، ما بين 1967 و1977، وقد حلل من خلالها جذور الهزيمة العربية، وأسبابها، وبنيتها العميقة منذ صدور وعد " بلفور" عام 1917 وحتى حصول هزيمة 05 يونيو/ حزيران 1967، كما لم يقف  عند نقد الهزيمة من زاوية السياسة فحسب، بل نقدها من زاوية المجتمع أيضا. لذلك، تصلح الأفكار الناظمة لمؤلفه أن تكون موجِّهةً لفهم عمقِ الهزيمة التي حلَّت بالعرب، والتأثيرات السلبية العميقة التي ما زالت مستحكمةً في المنطقة على الرغم من مرور نصف قرن على وقوعها.

تُنبهنا الذكرى الخمسون للهزيمة على أنها لم تكن هزيمة جيوش عربية عجزت عن مواجهة إسرائيل، فاحتلت أراضيها مجتمعة، استرجعت بعضها باتفاقيات كان لها ما كان  ) سيناء( ، وما زالت أخرى تقبع تحت الاحتلال ) الجولان والضفة الغربية والقدس( ، بل علاوة على ذلك، كانت زلزالاً عميقاً في المنطقة، سمح لانتصار إسرائيل فيها بترسيخ وجودها بلا رجعة. والحقيقة أن منذ نصف قرن وإسرائيل تتربع على هذه الأراضي، ولم تخرج من بعضها إلا بعدما أرهقت الأطراف العربية وقادتها إلى اتفاقيات  لا خير يُرجى منها بالنسبة للقضية الفلسطينية والعربية عموماً، ومن هنا يمكن التشديد على أن الميلاد الرسمي لإسرائيل تحقق عام 1967، وليس عام 1948.

تدفعُنا الذكرى الخمسون لهزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967 إلى  إعادة التفكير في مصادرها   المتنوعة والعميقة، ليس في الواقع من  جانبها العسكري والسياسي فحسب، بل كذلك من  زواياه المجتمعية،  والفكرية والثقافية. فكما  كتب الراحل " ياسين الحافظ"، كانت هزيمة الجيوش العربية دليلا على هزيمة العقل العربي، أي التجربة العربية في أبعادها المجتمعية والفكرية والثقافية، وإلا بماذا نفسر سقوط  حدود دول المواجهة مجتمعة بقبضة الاحتلال في أيام معدودات، ودون مقاومة تُذكر، علماً أن الخطابات ظلت لسنوات تردد مقولات وشعارات تسوِّق للقدرات العربية، وتُقدم إسرائيل كنمر من ورق. لذلك، سيكون مفيداً فهم الهزيمة، على الرغم من مرور نصف قرن على وقوعها، من زوايا أقدر على التحليل والتفسير وربط الأسباب بمسبباتها.

تُنبِّهُنا الذكرى الخمسون للهزيمة على أن ليست العبرة  في البكاء على ما حصل، وكيف حصل، وتقديم المنطقة التي طاولتها الهزيمة على أنها ضحية لما حصل، بل المطلوب معرفة لماذا حصل، وهل كان بالإمكان تجنب ما حصل، والأهم من كل هذا العمل على مقاومة فكر الهزيمة ، ومحاربة إمكانية انغراسه في " الذات الجمعية" للمجتمعات العربية. ومن هذه الزاوية تحديدا، يمكن القول أن أخطر ما ترتب عن هزيمة 1967، تحولها من هزيمة جيوش عربية في معركة ضد إسرائيل إلى هزيمة عقل عربي، عزّ عليه أن يفهم الهزيمة، ويستوعب أسبابها ودروسها، ويتجاوزها بالنفي والقطيعة. الشاهد على هذا أن مرور نصف قرن على حصول الهزيمة لم يُساعد على إعادة بناء القدرة العربية، وإعداد الإنسان العربي للتناظر مع أقرانه في بلاد المعمورة، والانخراط المقتدِر في العطاء الإنساني العالمي، بل ما حصل  جاء مناقضاً لما كان يجب أن يحصُل. لننظر جميعا إلى واقعنا، وما يلُفُّ حولنا، وما آلت إليه أوضاعُنا، و نحكم بعد ذلك على ديمومة روح الهزيمة في ذواتنا من عدمها. 

كتب باحث عربي منذ سنوات مشيراً إلى "خروج العرب من التاريخ"، فكان نصيبه النقد والاعتراض، ووسمه بأقبح الأوصاف والنعوت، وكثيرا ما لقيت أفكار ومقولات الشاعر العربي " أدونيس"، النقد والتجريح نفسه..ألم نتأخر في مصارحة أنفسنا، نخباً ومجتمعات، بحقيقة ما نحن عليه، والعمل سوياً من أجل تغييره نحو الأفضل؟. لاشك أننا قمنا، بما يكفي، بتشريح ذاتنا، وتعرية جوانب الوهن والسقم فيها، يبقى أن نمتلك عقل إعادة بنائها بشكل سليم وعقلاني وفعال، وهذا ما يبدو أننا عاجزون حتى الآن على النجاح في إدراكه. لذلك، لم تكن المشكلة في وقوع الهزيمة وحصولها في منطقتنا، لكن مشكلة المشكلات أن تصبح الهزيمة منغرسة في ذاتنا الجمعية، أي في فكرنا وثقافتنا، ورؤيتنا للعالم.. إن الأخطر فكر الهزيمة، لا الهزيمة كحدث قد يحدث لأية أمة، في أي وقت وفي أي مكان. 
التعليقات (0)