شهدت الساعات الماضية في منطقة الخليج العربي هجوما إعلاميا منسقا ومدروسا وخطيرا في آن واحد رغم أن حيثياته وآليات إنجازه وكامل الكيانات التي تقف خلفه لم تكشفها التحقيقات بعد.
تتمثل الجريمة التي انكشف زيفها بسرعة كبيرة في قرصنة وكالة الأنباء القطرية الرسمية وبث رسائل نصية على عمود الأخبار الأفقي أسفل شاشة البث ونسبة هذه الأخبار والتصريحات إلى رأس السلطة في البلاد ممثلة في أمير البلاد.
بالتوازي مع عملية الاختراق المباشر هذه كانت الجهة المنفذة للقرصنة قد أعدت حملة منسقة من الكتابات والتحليلات المرئية والمكتوبة والمسموعة من أجل تضخيم الهجمة وتحقيق أكبر قدر ممكن من الإساءة.
فإلى جانب التغطيات الإخبارية التي قادتها قناة العربية -وتبث من دولة الإمارات- قامت قنوات ومواقع أخرى مثل قناة سكاي نيوز عربي وقناة الحدث وغيرها من الأذرع الإعلامية بحملات مشابهة في نفس الاتجاه.
لكن بعد أقل من ساعة من الهجوم كذّبت الجهات الرسمية القطرية ما ادعته الأخبار المزورة وقدمت أدلة موثقة بالصوت والصورة تثبت زيف الادعاءات.
الحادثة على قدر كبير من الخطورة التي تتجلى في المستويات التالية:
يتمثل المستوى الأول في السياق السياسي الذي حدثت فيه العملية وهو سياق يعقب القمة الأمريكية السعودية التي انعقدت بالرياض ودشنت لمرحلة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الاسلامي ككل.
هاته القمة صاغت بشكل غير معلن طبيعة التحالفات القادمة وطبيعة التوجهات التي ستحكم السياسة العربية الرسمية من جهة والسياسة الأمريكية في المنطقة من جهة أخرى.
بناء عليه فإن خطورة الهجوم ومضامينه تؤكد نوايا أصحابه وسعيهم إلى التأثير في التحالفات القادمة وفي التوجهات التي ستحكم المرحلة السياسية المقبلة.
إن استهداف العلاقات السعودية القطرية إذن هو جزء من عملية زعزعة للتحالفات القادمة والتأثير فيها.
أما المستوى الثاني فهو مستوى كميّ ويتجلى في حجم الهجوم وبنيته الداخلية فالعمل لم يكن عملا أحادي الاتجاه بل كان مجموعة من الموجات المتعاقبة التي انطلقت في توقيت دقيق وشديد التنظيم.
فالقرصنة تمت في وقت متأخر ثم أعقبتها صباحا الموجة الثانية ممثلة في التغطيات الإعلامية الجاهزة والمدروسة بعناية في محاولة لضرب الهدف بأقصى قدر من التركيز.
بناء عليه فإن الجهات التي تقف وراء العملية ليست مجموعات هاوية ولا هي منصات عادية بل يتعلق الأمر بتحالف تكنولوجي إعلامي واقع تحت قرار سياسي وسلطة مالية مباشرة.
ثالث المستويات يتعلق بمضامين التزييف وهي أخطر مكونات الجريمة. فقد تضمنت التصريحات المنسوبة لأمير قطر اتهاما للملكة بالإرهاب واستعداء لدول من الخليج العربي واتهاما للرئيس الأمريكي بالمحاسبة القانونية في بلده.
هاته المضامين الخطيرة تتحرك في اتجاهات مختلفة وتبعث برسائل مشفرة تفضح الأهداف التي كان القراصنة يسعون إلى تحقيقها.
فمن جهة أولى يمثل فصل السعودية صاحبة القرار العربي عن قطر أعلى مطالب القراصنة لما يمثله التقارب بين الدولتين من خطر على كثير من الأجندات الإقليمية داخل البيت الخليجي وخارجه خاصة من جهة الدول الداعمة للانقلابات.
فالوعي بثقل المملكة والوعي بأهمية التحالفات التي يمكن أن تنجزها داخل البيت الخليجي هو الذي يرعب أجندة القراصنة.
ومن جهة أخرى يمثل عزل قطر عن محيطها الاقليمي المباشر ممثلا في الدول الخليجية التي ذكرتها التصريحات المنسوبة للقيادة القطرية إمعانا في تنفير المملكة من الجوار القطري وتأليب الشارع الخليجي عليها.
أما استهداف الرئيس الأمريكي فيمثل الموجة الثالثة لمضامين الهجوم الإعلامي حيث يشكل استهداف الضيف السعودي بكل ثقله الدولى موقفا يلبّس لدولة قطر ليترجم حسب القراصنة موقفها من التحالف الأمريكي السعودي الجديد.
إن مستويات الهجوم الثلاثة التي ذكرناها وهي تباعا سياقه السياسي وحجمه الكمي ومضامينه الخطيرة تشكل الأسس التي بها يقاس حجم الجريمة المرتكبة ومجمل الآثار السلبية التي يمكن أن تنجرّ عنها.
فالعملية أشبه بانقلاب إعلامي على صورة دولة عربية مسلمة وعلى خطابها السياسي الذي هو واجهتها الخارجية وهويتها الدبلوماسية خاصة وأن التزييف تزامن مع إشراف السلطة السياسية القطرية على تخريج دفعة من القوات العسكرية وهو ما يمنح التصريحات الملفقة أبعادا خطيرة جدا.
كثيرة هي النتائج والخلاصات التي تستفاد من هذا الدرس الجديد من أهمها:
إن القوى الساعية إلى تدمير البيت الخليجي لصالح الأعداء المتربصين بالمنطقة وعلى رأسهم إيران وأذرعها الظاهرة والخفية لن يتوانوا في استعمال أقذر الوسائل من أجل تمزيق الجسد المهدِّد لتحالفاتهم وأطماعهم.
إن استهداف قطر ليس الأول ولن يكون الأخير وهو لا يستهدف الدولة في حد ذاتها فقط بقدر ما يستهدف قدرتها على الفعل وخاصة رفضها الانصياع إلى شروط الانقلابات ومباركة تدمير التجارب الجديدة في المنطقة العربية.
ليس الإعلام العربي في غالبيته المطلقة إلا ذراعا من أذرع الكذب والتضليل والتزييف وقلب الحقائق ونشر الوهم وهي الأهداف التي تجعل منه ألد أعداء الوعي العربي وألد أعداء قيم الأمة ودينها.
إن سياسة ضبط النفس التي تحلت بها قطر طوال السنوات الأخيرة لا يجب أن تمنعها من تتبع الجناة بكل الطرق والوسائل الممكنة، بعد أن أظهرت الحقائق الأخيرة أن الصمت عن الأذى قد يضاعف شروطه خاصة عند كيانات لا تحمل لقيم الجوار والانتماء المشترك و العقيدة المشتركة اعتبارا يذكر.
يبقى درس القراصنة الأخير تأكيدا لما يمثله اللاعب القطري من تهديد حقيقي لكثير من الأجندات بالمنطقة تستهدف الأمة وتستهدف نهضتها لأنّ الذين يراهنون على بقاء المنطقة على الشكل الذي كانت قبل ثورات الربيع العربي إنما يؤجلون المواجهة مع التغيرات الكثيرة التي يشهدها العالم برمته.
وأول هاته التغيرات وأهمها هو وعي الجماهير اليوم بحقها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ووعيها أيضا بكل خطط القراصنة سواء كانت في بحار الخليج أو في رماله المتحركة والتي ستبتلع حتما كل أعداء الأمة وأكاذيبهم.
1
شارك
التعليقات (1)
محمد
الخميس، 25-05-201707:01 م
مشكور يا استاذ وتحية لدولة قطر ولا عزاء للعملاء من الدحلانيين