رأينا في الآونة الأخيرة عملا يتعلق بمؤتمر ينعقد في عاصمة عربية مع رئيس أمريكي سبقته الدعاية التي تؤكد عنصريته، كما تؤكد بشكل أو بآخر رأسماليته المتوحشة، وتؤكد أيضا على المعنى الذي يؤسس للغطرسة بمعاني البلطجة في ممارسة القوة، بل إنه أعلن وبشكل صريح أن دول الخليج لا تملك إلا المال، و"أننا -أي الولايات المتحدة الأمريكية- لا يمكن أن نتطوع لحمايتهم إلا بعد أن يدفعوا"، بدت هذه المقولة وقبل أن يعتلي كرسي السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال حملته الانتخابية، أننا أمام معادلة جديدة في بلادنا وفي منظومة الشرق الأوسط بأسره، برز ذلك في قمة البلورة السحرية لمحاربة الإرهاب.
وفي ذات الوقت وبعدها بيوم رأيناه وأسرته يتباكون عند ما يسمى ومما يزعم بأنه "حائط المبكى"، طقوس في الدولة الصهيونية تعبر عن حالة رمزية من مشاهد الولاء من رئيس دولة عظمى لا يستنكف أن يقدم القرابين، بل إن جمعية ابنته التي تلقت تبرعا ضخما من دولة خليجية حينما حلت على الكيان الصهيوني تبرعت لبعض جمعيات في إسرائيل، وبدت تلك المفارقة لتؤكد أن معادلة الشرق الأوسط تكتمل أركانها في دول اجتمعت لتقوم بمحاربة الإرهاب وفق ما تراه الولايات المتحدة ووفق ما تحدده ووفق ما تعينه من الوصف بالإرهاب.
وفي هذا الإطار لم يعد هناك كلاما عن اغتصاب إسرائيل ولا عن حل القضية الفلسطينية، بل وصل الأمر بجملة اتهامات مرسلة لبعض منظمات تقاوم المحتل الغاصب لتؤكد أن للفلسطينيين حقوقا يطالبون بها ويدفعون عنها، وأن المغتصب لا يمكن أن يفلت باغتصابه أو بسرقته للوطن الفلسطيني يقضم منه ما يشاء من خلال متوالية اغتصاب جديد ومتجدد يتحرك فيها من خلال إنشاء مغتصبات جديدة.
ويعقد الاجتماع في الوقت الذي يمر فيه "ترامب" بأسوأ أزمة واجهت رئيس أمريكي منذ "فضيحة ووترجيت" التي انتهت بعزل "نيكسون" من منصبه في منتصف السبعينيات، والأزمة التي يغوص فيها "ترامب" حاليا وتتفاقم يوما بعد يوم تتعلق بقيامه بعزل مدير مكتب التحقيقات الفيدراليFBI السيد "كومي" الذي يحقق في الاتهامات الخاصة بتدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية لصالح "ترامب"، ثم تسريب مذكرة أعدها "كومي" قبل عزله يشير فيها إلى أن الرئيس دعاه إلى العشاء وطلب منه إغلاق ملف التحقيق وأنه رفض هذا الطلب مشيرا إلى أن ولاءه للدستور وليس للرئيس الأمريكي.
أما المشهد الثالث فإنه أتى من حوادث غير محسوبة؛ حادثة تتعلق بدهس أحد شباب تونس، ومظاهرات واحتجاجات واسعة انتقلت من بلدته "تطاوين "إلى العاصمة التونسية في مظاهرات تبلغ بالآلاف، بين تلك المشاهد الثلاث سنرى عمليات التدافع بين مليارات حكام تدفع لشراء أمنها وتأمينها وأمانها وبين إرادات شعوب تندلع في أشكال احتجاجية، تؤكد أن الشعوب في حرصها على كرامتها لا تقبل الظلم ومازالت تعبر عن بقية طلب على الحرية والعزة والكرامة.
إنها المشاهد المتدافعة لا تزال تعطي الدروس، فمن المكن للحكام أن يفعلوا ما يتصورون أنه حماية لعروشهم وكراسي سلطانهم، ويمكن أن يدفعوا في ذلك المليارات من الدولارات، ويمكن للولايات المتحدة الأمريكية برئيسها الجديد والذي يشكل لحظة نماذجية للحضارة الغربية فتأتي بهذا النموذج الذي يحكم الولايات المتحدة الأمريكية في منظومة كاشفة من العنصرية والغطرسة والشره الرأسمالي فيلتقي كل ذلك مع هؤلاء الذين ارتضوا أن يكون "راعي البقر الجديد" حاميا لهم مدافعا عن استقرارهم وبمعادلته التي تتعلق بالشره الرأسمالي فإن "عليهم أن يدفعوا".
إن هذه المعادلة التي تجمع بين هذه اللحظة النماذجية التي يشكلها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الجديد وبين هؤلاء الحكام الذين يرون فيه السند الأكيد والداعم الوحيد يتناسون أن للشعوب إرادة وللجماهير كرامة، يأتيهم الصوت كالمعتاد من تونس يصرخ بكل قوة ما هذه المعادلة التي لا تقيم وزنا لإرادات الشعوب، ولا تعترف إلا بمبادلات بين حماية عروش ومليارات الدولارات.
ما زال هؤلاء لم يتعلموا درس التغيير، فإن للتغير معطياته وموجباته والتغيير قادم لا محالة، وأن الشعوب ما زالت تمثل رقما صعبا في معادلة التغيير والتأُثير، أننا أمام تصور أن هذه المليارات التي تسلم إلى قمة الطمع الرأسمالي ماذا لو أنها قد أنفقت على إصلاح عربي حقيقي؟! ومسارات تنموية متكاملة تصب في عافية الشعوب ومصالحها الحقيقية، ذلك أن هذه الرؤى التي تتعلق بحالة الذيلية والتبعية لا تعرف كيف تبني عناصر تنمية ذاتية واستقلالية نابعة لا تابعة، وتجعل ذلك الانفصال بين قيادات ونخب وبين جماهير وشعوب أمر يتحرك في بيئة ظلم متنامية وتغافل لا يمكن قبوله وإهدار ما بعده إهدار.
فهل يمكننا بعد ذلك أن نرى تلك المشاهد وقد تداخلت وتدافعت نرى كل تلك الأمور في عمليات إعلامية ومهرجانية يحتفلون فيها بأشكال جديدة من العبودية؟، رغم أن تلك الأموال التي يشترون بها أشكال متنوعة من العبودية هي ذات الأموال التي يمكن أن تمكنهم من السير في طريق تنمية عادلة ومسارات حرية قائمة.
ما لهؤلاء لا ينظرون إلا تحت أقدامهم ولا يحصلون إلا مصالح زائفة أنانية وآنية، ولا يعرفون أن ثمن الاستقرار وتمكين الأمن والأمان لا يكون إلا برضى حقيقي من شعوب طال حكمها من منظومات استبداد وظلم لم يعد لها من سند أو تبرير، ما لهؤلاء يمررون كل ما يتعلق بهذه السياسات التي تجهل أو تتجاهل قوانين التغيير، وقوانين التدبير وسنن التأثير.
ما لهؤلاء لا يستثمرون أموالهم في حق شعوبهم فيرفعون مستويات معاشهم ويتخلصون من كل مظاهر ظلمهم سواء تعلق الأمر بمعاشهم الاقتصادي أو بحرياتهم الإنسانية، ما لهؤلاء حينما يخافون من إرادات الشعوب وثوراتهم فيقومون بكل عمل لمواجهة تلك الثورات وإجهاضها، يصطفون في ذلك إقليميا ودوليا، فلا يقف الأمر عند حد الضرر بشعوبهم ولكنهم يمتدون بضررهم إلى شعوب أخرى، ما بالهم يشترون العبودية من سيد شره لئيم فيطلبون من الشعوب أن تكون في حالة عبودية لأمير لا هم له سوى سلطانه أو ملك عظيم أو مستبد مقيم.
إنهم لا يجيدون إلا أفعال العبودية فهل كٌتب على هذه المنطقة أن تسير ضمن معادلات تتسم بالتشوه والاختلال لا تعرف حد ولا تقيم ميزان، إنها أكبر فرية يرتكبها الحكام في حق شعوبهم ما بالنا لا نطلب الحرية لدولنا ولشعوبنا في معادلة جديدة تنفق فيها تلك الأموال على طريق الاستقلال والحرية والنهوض والتنمية بدلا من شراء عبودية وتبعية.