كان أبرز شعارات الثورة التونسية العظيمة في 17 كانون الأول 2010 هو "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، وهو الشعار الذي لخص بكل تركيز مطلب الثوار من جحافل العاطلين وفيالق الفقراء والمهمشين. اليوم وبعد ما يقارب سبع سنوات هي عمر ثورة الفقراء، لا يزال الصراع على أشده ضد الدولة العميقة بما هي الوريث الشرعي للهارب ابن علي، الذي ترك وزراءه واحدة من أشرس البنى الوظيفية للفساد والنهب.
اليوم يخوض شباب تونس أمّ المعارك بعد أن خاض بالأمس واحدة من أشرس المعارك ضد الطاغية ابن علي وانتصر عليه، فولى الأخير هاربا جزعا من أن يلقى مصير القذافي. المعركة اليوم هي دون منازع أم المعارك ومعركة المعارك التي يخوضها الشعب التونسي الفقير ضد قوى الموت العالمية، وضد وكلائهم المحليين من عصابات النهب والفساد، التي دمرت تونس ودفعت بالملايين من أبنائها إلى أحضان الفقر والتهميش والفساد والانحراف والإرهاب.
في الجنوب التونسي يرابط الشباب الأعزل حول محطات النفط ومواطن ضخ الثروة النفطية الأهم في البلاد، وفي الجريد يحاصر الشباب محطات ضخ الغاز وفي الوسط والشمال الغربي ينجز الشباب نفس الفعل الثوري. هذا الشباب العاطل عن العمل والمتحصل على أكثر الشهادات العلمية رفعة وقيمة يخوض اليوم معركة المصير، نيابة عن نخب العار التونسية التي تكتفي بالصمت والمعارك الكلامية من تحت قبة برلمان الانقلاب، ورفع الشعارات القومجية في الندوات والمحاضرات.
الجديد في المعركة الجديدة هو التالي :
أولا: أدرك الشباب العاطل زيف قدرة السياسة والسياسيين على الفعل، فأطرد كل الأحزاب التي حاولت الركوب على مصالحه أو التكلم باسمه في هذه المعركة الجديدة. هذا الوعي الجديد بخطورة الأحزاب السياسية على المطالب الشعبية القاعدية، يشكل تحولا نوعيا جوهريا في الإدراك الشعبي الجمعي بما يسمح له أن يضاعف من قدراته على الفعل والإنجاز. إنّ إخراج العنصر السياسي الحزبي والإيديولوجي من دائرة المعركة يمثل في حد ذاته نقلة نوعية جوهرية في طبيعة المعركة وفي طبيعة الصراع الدائر على الأرض.
ثانيا: كشفت المعركة الجديدة أن الصراع على الثروات وتأميمها هو قلب الحرب ضد الاستعمار وأعوانه من الوكلاء المحليين. فليس نظام ابن علي ومن قبله نظام الطاغية بورقيبة إلا أنظمة حراسة لشركات النهب العالمية، التي تعد الحاكم الحقيقي للبلاد التونسية. هذا الكشف يتجلى في حجم الهلع الذي انتاب الدولة العميقة ومنصاتها الإعلامية بسبب تركيز الصراع حول نقطة الثروات ودورها في التنمية والتشغيل والنهوض بالجهات المحرومة، فقد نجح نظام الوكالة الاستعمارية خلال حكم الوكيلين بورقيبة وابن علي في صرف النظر عن ملف الثروات الباطنية التي كانت تدار بشكل سري ومباشر من طرف الشركات الاستعمارية الأجنبية نفسها.
ثالثا: حملت معركة الثروات الثورة التونسية نحو أفق جديد هو أفق الصراع مع الفساد وأدواته الداخلية والخارجية. فقد قامت الثورة التونسية من أجل التنديد بالفساد والمفسدين وليس القمع وإرهاب المواطن وتعذيبه في أقبية السجون والمعتقلات، إلا لحماية الفساد والفاسدين. بناء عليه، فإن هذا التحول في الصراع يرتقي بالثورة التونسية إلى درجة جديدة تفتح المواجهة مباشرة مع النظام الاستعماري العالمي الذي صار يرتعد بسبب التهديد المباشر لمصالحه في البلاد التونسية.
رابعا: يحمل هذا الأفق الجديد مخاطر جمة بدت ملامحها في الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية، الذي حاول توريط المؤسسة العسكرية في مواجهة المطالب الشرعية للمتظاهرين؛ فبعد أن حافظ الجيش التونسي على موقف حيادي خلال الثورة ضمن له احترام الجميع وتقديرهم له، ها هي الدولة العميقة تحاول جر آخر المكونات السيادية للدولة إلى حلبة الصراع مع المحتجين بأوامر خارجية بطبيعة الحال. أما لغة التهديد والوعيد التي خاطب بها رئيس الدولة العميقة مطالب المحتجين، فإنها تكشف بجلاء أن الوريث الشرعي لنظام الهارب ابن علي لا يتقن غير لغة القوة وأساليب القمع التي لم تعد تجدي نفعا في تونس.
خامسا: إن معركة الثروات الوطنية هي المعركة الوحيدة القادرة على ردم الهوة العميقة التي تفصل الحواضر المترفة في الساحل والشمال عن بقية مدن الفقر والموت والبطالة، فالثروات الوطنية وخاصة الباطنية منها، إنما تتركز في الجنوب أو في الشمال الغربي حيث مناجم الفوسفات والحديد والذهب، وهي المناطق التي تعاني من الفقر والبطالة والتهميش والقمع. بناء عليه فإن ما يعاني منه جنوب تونس ووسطها وشمالها الغربي من غياب للتنمية وللبنية التحتية الأساسية، إنما يعود في جزء كبير منه إلى مصادرة ثرواته ونهبها، وتحويل جزء منها إلى حسابات " عصابة اللصوص " في أوروبا.
سادسا: ليس قانون المصالحة الوطنية الذي تحرص الدولة العميقة على تمريره إلا الوجه الآخر للفساد الذي تمثل الثروات الوطنية وجها من أبرز وجوهه؛ فالفساد الذي يمس قطاع الطاقة والمحروقات هو أكثر الملفات حساسية وترويعا لدولة العصابات التي لا تزال تمسك بملف الثروات الوطنية، مستفيدة من انتهازية النخب التونسية وخيانة الأحزاب السياسية لشعارات الثورة التونسية.
إن انتصار الشعب التونسي في معركة السيادة الحقيقية هي التي ستمثل نصرا فعليا للثورة التونسية ولو خسر الشعب هذه المعركة، فإن شروط الموجة الثورية القادمة ستتجدد لكن بوعي جديد، مداره أنه لا سيادة ولا استقلال لأي شعب من الشعوب دون سيادته على أرضه بما فوقها وما تحتها.