يخوض الجنوب التونسي اليوم ونيابة عن كل الشعب الفقير أخطر المعارك ضد دولة الفساد التي تتحكم في المفاصل الأساسية للبلاد بعد الثورة وهي تعتبر فعلا معركة الاستقلال الحقيقي التي ستتجاوز الاستقلال الوهمي الذي تم الترويج له منذ نهاية فترة الاستعمار المباشر سنة 1956.
مدينة " تطاوين " في الجنوب الشرقي التونسي على الحدود الليبية دخلت في مواجهة مباشرة مع نظام الفساد وشركات النهب العالمية التي تستنزف ثروات المنطقة منذ أكثر من ستة عقود هي عمر النظام الاستبدادي في تونس.
قام الشباب الغاضب بمحاصرة آبار النفط ومواقع الإنتاج التي تسيطر عليها كبرى الشركات العالمية ووكلاؤها من الشركات المحلية ورفع إلى رئاسة الحكومة جملة من المطالب تدور كلها حول نقطة واحدة وهي الحق في التشغيل وفي التنمية. أي أن سكان الجهة من الشباب العاطل والمهمش طوال عقود طويلة لم يطالب بغير التشغيل ورفع الغبن والمظلمة عن الجهة التي تعتبر أغنى الولايات التونسية وأكبرها مساحة.
الشباب العاطل لم يطالب بغير حقه الشرعي والطبيعي في دولة أصبح الفساد فيها هو الدولة نفسها وصارت الثروات لعنة على المناطق التي تنتجها مثلما هو حال ولايتهم.
لا شك أن الدولة العميقة بأجهزتها ومؤسساتها تستشعر خطورة الوضع فهي المرة الأولى التي تبلغ فيها الاحتجاجات الشعبية هذه الدرجة من السلمية أولا ومن الوعي بالمطالب وقيمتها ثانيا.
حولت الحكومة عبر رئيسها امتصاص حالة الاحتقان عبر توزيع الوعود الزائفة كما جرت العادة فما كان من المحتجين والمعتصمين إلا طرده من المدينة في مشهد مهين مؤكدين على سلمية احتجاجاتهم وعلى عدم خضوعها إلى التجاذبات الحزبية والأجندات السياسية.
الجديد في المشهد هو أن الاحتجاجات الشعبية أصبحت تتمدد، فها هي مدن الوسط ومدن الحوض المنجمي ومدن الجريد التونسي تنخرط في معركة تأمم الثروات الوطنية التي لم ير منها شباب هذه المناطق وسكانها شيئا يذكر بل عادت عليهم بكل أنواع التلوث والسرطانات والأمراض المعدية.
هذا التمدد ينذر بتحول المعركة من معركة مناطق بعينها إلى معركة وطنية يخوضها الشعب التونسي ضد "عصابة السرّاق" الذين ثار ضدهم يوم 17 ديسمبر 2010 ونجحوا في العودة إلى المشهد من جديد وبكل وقاحة الثورة المضادة.
لم تنجح العمليات الإرهابية المشبوهة هنا وهناك في تشتيت تركيز الرأي العام على معركة "مدينة تطاوين" باعتبارها معركة الاستقلال الحقيقي لأن الاستقلال المزيف الذي سُوّق لوعي التونسيين لم يكن إلا فخا كبيرا نجح عبره الوكيل الاستعماري الأول بورقيبة والوكيل الثاني بن علي، في صرف أنظار الشعب عن ثرواته المنهوبة.
اليوم يدرك الجميع أن تونس لا تزال دولة مستعمَرة لكنها مستعمرة عبر مكونين: يتمثل الأول في شركات النهب العالمية وهي شركات عملاقة تغطي كل الميادين الاقتصادية من تجارة وصناعة وفلاحة ومواد أولية وخدمات وكل القطاعات الأخرى.
هذه الشركات الأجنبية هي التي تحرص على أن تبقى تونس مثل غيرها من البلدان المتخلفة سوقا للبضائع الأجنبية وخزانا لا ينضب للموارد الطبيعية من نفط وغاز ... وللموارد البشرية واليد العاملة الرخيصة المهاجرة.
أما المكوّن الثاني فيتمثل في الوكلاء المحليين وهو عبارة عن شركات حراسة يملكها رجال أعمال محليين هم في مقام تجمع للعصابات التي ترعى مصالح القوى الاستعمارية رغم هروب زعيمهم في 14 كانون الثاني 2011.
وليست الأحزاب السياسية والتجمعات المدنية وأذرعها الإعلامية التي تمسك بالمشهد اليوم في تونس إلا التعبير السياسي عن الحارس الوفي لهذه الشركات بما هي رأس حربة الاستعمار الناعم لتونس.
ليست البطالة في نهاية الأمر وفي حقيقته إلا الوجه الآخر لتفشي الفساد في كل القطاعات التي تمثل الاقتصاد الوطني.
البطالة ليست قدَر الشباب التونسي الذي لم يعد يحلم إلا بالهرب من وطنه والحصول على عمل وضيع في أي مكان من الكرة الأرضية علّه به يحقق سعادته في العيش الكريم وتفادي السقوط في فخ التطرف والانحراف والمخدرات والجريمة وكل الأمراض الاجتماعية التي تنهش لحم هذا المكون الحي من مكونات المجتمع.
البطالة هي في الحقيقة استراتيجيا دولة العصابات التونسية التي كدّست ثروات طائلة جمعتها في أحيائها الفاخرة بالشمال بعيدا عن أعين الفقراء وأرسلت أبناءها للدراسة بأرقى الجامعات الأوروبية والأمريكية في الوقت الذي لا يجد فيه بعض الشباب قوت يومه أو ما يسد به رمقه ويحفظ كرامته.
اليوم يخوض شباب تونس معركة الاستقلال الحقيقي، أي معركة السيادة على الثروات بما هي المحرك الوحيد للتنمية وبما هي مصدر مواطن الشغل الأساسي، وبما هي خاصة المطمع الأساسي لقوى الاستعمار وشركاته الناهبة.
إنها معركة المصير الأساسية وهي النقطة الفاصلة بين الاستعمار والاستبداد من جهة وبين الحرية والكرامة من جهة أخرى.
فدون سيطرة الشعب على مقدراته وثرواته ودون سيادته الفعلية على أرضه وكنس المستعمر وأذنابه، لا يمكن الحديث عن دولة مستقلة لذا كان شعار أهل الجنوب الأساسي "لا تراجع ولا استسلام" أو بتعبير أهل المدينة: "الرَّخْ ...لا".. إنها معركة المصير.