أثناء إنتاجي لفيلم وثائقي عن إعلان بلفور قبل عشر سنوات لقناة الجزيرة، قابلت المرحوم الدكتور عبد الوهاب
المسيري، وسألته عن سر دعم
عائلة روتشيلد اليهودية الشهيرة لهذا الإعلان.
أجاب بأنه كان من المنطقي أن تهاجر هذه العائلة لإسرائيل فور إعلان الدولة عام 1948، وأن تنقل استثماراتها إلى هناك بوصفها هي التي استقبلت الإعلان التاريخي من وزير خارجية
بريطانيا سنة 1917، ولكنها لم ولن تفعل.
وشرح بأن الأمر ببساطة، لأنهم يؤمنون بإسرائيل قوية ووطن قومي لليهود، لكنه بعيد عنهم كيهود أثرياء في أوروبا والولايات المتحدة، فهم مندمجون ومرتاحون هناك.
إسرائيل، بحسب كلام المسيري، جهة تصدير لليهود غير الأثرياء، وغير المرغوب فيهم، ليشكلوا جماعة وظيفية تحمي المصالح الاستعمارية الغربية في الشرق.
تذكرت هذا الحوار، وأنا أطالع تصريحات اللورد جاكوب روتشيلد حول دور العائلة في إصدار مثل هذا الإعلان، الذي تتناقله صحف بريطانية يمينية مثل "ديلي تلغراف" في إطار البروباغندا المدعومة إسرائيليا لتجميل الوجه القبيح لهذه للذكرى المئوية لهذا الإعلان.
وما لفت نظري في حواره أمران، أولهما أنه أقر بوجود انقسامات في العائلة قبل مئة عام تجاه إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فكان يوجد قطاع لا يؤيد هذه الفكرة ويعتبرها أمرا غير طيب.
ولديهم حق طبعا بالنظر لما آلت إليه الأمور. وأعتقد أنهم أكثر اتساقا مع الذات من ابنة عمه دورثي التي دعمت هذا الأمر بكل قوتها حينئذ.
الأمر الثاني، الملفت أنه تحدث عن دور دورثي في مساعدة حاييم وايزمان، أستاذ الكيمياء المهاجر من روسيا البيضاء، في الولوج إلى دهاليز السياسة البريطانية بالتالي الوصول لوزير الخارجية آرثر جيمس بلفور حينها، وكيف أن وايزمان تعلم بسرعة هذه المهارة.
وهو ما يعني أن أساليب التأثير في القرار الغربي لم تتغير كثيرا بعد مئة سنة، فدورة التأثير لا تمر دون ثقافة اللوبي أو الحشد السياسي المتراكم، بالتالي لو كانت الفكرة محض قرار بريطاني استعماري لما احتاج إصدار الإعلان كل هذا المجهود من دورثي ووايزمان، وغيرهم.
ورغم أن بريطانيا، كدولة ومجتمع، تغيرت كثيرا منذ عام 1917، لكن يبدو أن اليمين البريطاني لم يتغير كثيرا، فهو مادة رخوة للتأثير المالي والدعائي لقوى وأصوات عنصرية استطاعت أن تقنع حكومة المحافظين الحالية بأن تشترك مع إسرائيل في إقامة احتفال مئوي بهذه الذكرى بكل وقاحة.
وكما كان تأثير دورثي ووايزمان قديما، هناك تأثير حديث من جماعات وشخصيات صهيونية تدعم مثل هذا التوجه.
المختلف هذه المرة، أن هناك جهودا متراكمة قامت بها قوى مناهضة للاحتلال والعنصرية الإسرائيلية خلال العقود الماضية.
هذه القوى استطاعت حشد أكثر من عشرة آلاف توقيع على عريضة برلمانية تطالب الحكومة البريطانية بالاعتذار عن إعلان بلفور.
ورغم أن الحكومة ردت على العريضة ترفض الاعتذار، إلا أن القصة لن تنتهي عند هذا الحد.
بريطانيا الآن يوجد فيها حزب معارض رئيس يحل في المرتبة الثانية، هو حزب العمال، وعلى رأسه شخص يعارض السياسات الإسرائيلية التوسعية والظالمة بشكل غير مسبوق، وهو جيرمي كوربن.
هذا الزعيم مرشح لخلافة رئيسة حزب المحافظين تريزا ماي في رئاسة الوزراء في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي ستجرى بعد أسابيع.
وبغض النظر عن فوز العمال، بالتالي وصول كوربن لرئاسة الوزراء أم لا، فإنه من غير المسبوق أن يكون زعيم سياسي رافض لإعلان بلفور بشكل علني ومعارض للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين قاب قوسين أو أدنى من حكم البلاد.
وإذا وصل إلى المنصب بالفعل، فلن يكون بمقدور إسرائيل أن تجد شريكا يحتفل معها بذكرى مئوية بلفور في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
يبدو الأمر وكأنه افتراض غير واقعي، لكن نذكر بأن الاعتذار عن جرائم فرنسا بحق الشعب الجزائري كان افتراضا غير واقعي، حتى تعهد به ماكرون خلال حملته الانتخابية لرئاسة فرنسا، وهو الآن على وشك أن يكون سيد الإليزيه.
الفكرة هنا، أنه مهما حاولت قوى اليمين في الدول الأوروبية أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وأن تضخ الدماء في تاريخ استعماري مقيت، فلن يجدي الأمر نفعا.
طبائع التاريخ والحياة ترفض ذلك، وفكرة إقامة وطن قومي لأتباع ديانة معينة في الحرب العالمية الأولى يتهاوى أمام حق تقرير المصير لسكان هذه الأرض.
وستجد بريطانيا نفسها، مجبرة أم مختارة، مضطرة للاعتذار عن إعلان بلفور كما اضطر رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون قبل أربع سنوات لإبداء أسفه على مذبحة القوات البريطانية في الهند بحق المدنيين عام 1919.
وتحول نيلسون مانديلا من إرهابي على قوائم الأمن البريطانية في الثمانينيات إلى بطل يقام له تمثال أمام البرلمان.