مرت أكثر من ثلاثة عقود على حديث الرئيس الأسبق (مبارك) لصحافية أجنبية سألته عن إمكانية مبادلة طابا بامتيازات إسرائيلية يحتاجها المصريون، فأجابها بسؤال مقابل: "هل يمكنك أن تقبلي مبادلة أحد أبنائك؟" ثم انصرف، بعدما استخدم تعبيرات وجهه وحركات جسده وهو أمام الكاميرات ليدلل على حضوره بكامل لياقته في ذلك الوقت، وسعْيِه -كسَلَفِه- على التمسك بالسيادة الظاهرية على الأقل ليبقى لهم ما يقفون به أمام شعبهم في ظل أوضاع اقتصادية مأزومة.
ومبارك هو الذي قال في التسعينيات عن حلايب وشلاتين أمام حشد من قادة الجيش والدولة: "أحدهم قال لي: هل تنازلت عن الأرض؟ فقلت له: لا أملك، الأرض ملْك الشعب، شيء لا أملكه لا أتنازل عنه".
هذا الكلام ليس غسلا ليد مبارك التي تلوثت بأشياء كثيرة أدت للثورة عليه، ولكنه لبيان المفارقة بين أبناء مؤسسة واحدة، إلا أن جيلا منهم حارب ثم ضعف، وجيل آخر عاش في كنف الضعف والمذلة فأصبح قائدهم اليوم لا يرفع رأسه إلا بين مواطني بلده، ويحنيها في مسكنة وتذلل أمام من ينعمون عليه باستبقائه في السلطة.
في مثل هذه الأيام منذ عام كانت هناك انتفاضة مصرية ضد "التنازل" عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية، وقامت مصر بدور "المحلِّل" أو التيس المستعار كما في النص النبوي، لتبرير التعامل السعودي العلني مع دولة الاحتلال، ورفع حرج القيادة السعودية أمام مجتمعها لو دخلت في علاقة مباشرة وعلنية، وأصبح ممر تيران المائي ممرا سياسيا يبتغي الساسة تدنيسه بعدما تطهّر بدماء التحرير التي بذلها البسطاء المحبون لأرضهم وشرفها المتلازم مع شرفهم.
نجح النظام الحالي في وأد هذه الانتفاضة بحملة اعتقالات تجاوزت ألف فرد، وفرضت ملايين الجنيهات كغرامات لإخلاء سبيل بعض الناشطين، فأحدثت خوارا شديدا في الكتلة الصلبة للاحتجاج على قرار "التنازل" لا "ترسيم الحدود"، ولم يبق للرافضين من منفذ إلا المحاكم لإيقاف عملية التنازل، ودعمت بعض الجهات التوجهَ الرافض للتنازل عن الجزيرتين، فحكمت المحكمة حكما نهائيا وباتا ببطلان عملية "التنازل"، وشهدت جلسات المحكمة أحط درجات الخسة عندما نافح النظام -ولا يزال- عن قرار البيع، رغم إعطاء المتظاهرين له منفذا للتراجع عنه.
اليوم تأتي ذكرى تحرير طابا وهو اليوم الذي أصبح عيدا لتحرير سيناء كلها، ورغم مرارة ما جرى لأجل التحرير في كامب ديفيد وبقاء (أم الرشراش/إيلات) حتى هذه اللحظة تحت الاحتلال، إلا أن عودة سيناء للسيادة المصرية كانت خطوة تستحق الاحتفاء، بما تمثله من أهمية على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، لكن ذكرى التحرير هذا العام تتزامن مع مشروع تسليم الأرض والتنازل عنها، وتتزامن مع أحداث اندلعت منذ سنوات جعلت سيناء مسرحا لقتال أتى على أخضرها ويابسها، وصنعت جرحا لن يلتئم إلا بعد تطهير مؤلم لأسباب الأزمة التي صنعتها وغذتها الأنظمة المتلاحقة.
سيناء التي تمثل 6% من مساحة مصر وتمثل سواحلها 29.1% من إجمالي السواحل المصرية أصبحت واقعة بين الدمار في الشمال، وفتح الحدود للمحتلين الإسرائيليين في الجنوب، وتعاني شبه الجزيرة من تجاهل حكومي كامل لمطالب أهلها واحتياجاتهم منذ عقود طويلة، ولم تكتفِ الأنظمة المتلاحقة بالتجاهل، بل تعمدت نبذ أهالي سيناء عموما، وفرقّت في التنمية بين الشمال الذي يفترض أن يصبح متنفس غزة المحررة، وبين الجنوب الذي أصبح ملاذا سياحيا لسكان دولة الاحتلال.
عمد النظام الحالي إلى التعامل مع سيناء باعتبارها أرضا محاربِة لا جزءا من الوطن، فشن حربا عسكرية واقتصادية على مدن رفح والشيخ زويد بشكل خاص، وقام بقصف المنازل واعتقالات عشوائية وقتل خارج نطاق القانون وعمليات تهجير واسعة، فَنَمَت بالمقابل رغبات الثأر واشتعل الوضع هناك، وأصبح الطاووس -الذي هدد بنشر الجيش في ست ساعات في كل ربوع الوطن- غير قادر على السيطرة على بضعة عشرات من الكيلو مترات ويعتمد على القصف العشوائي والقتل خارج نطاق القانون، وأُخرِج مواطنون مصريون من بيوتهم لأجل ديانتهم، لأن لدينا نظاما غائبا عن الوعي والإدراك ولا يقدر على حماية مواطنيه من مجرمين تدثروا برداء الدين، وإجراءاته تقوم بإشعال الأوضاع أكثر كما شاهدنا واقعة مقتل مواطنين بدم بارد بعدما قُبض عليهم في تسريب لـ"قناة مكملين"، ثم خرج المتحدث العسكري يحكي عن اشتباكات متبادلة، في حين أن السلاح كان يوضع بجوار القتيل لتصويره -بعد قتله به- ثم يعود للجندي الذي كان يحمله.
أصبح هناك حديث يتردد بقوة عن سعي الرئيس الحالي لعمليات تهجير واسعة في سيناء مقابل تقديم تلك المساحات للفلسطينيين في إطار عملية تصفية كاملة للقضية الفلسطينية وإنهاء المطالبات بإعادة حدود الدولة إلى ما كانت عليه قبل تقسيمها سنة 1948، وهو ما ادعاه الوزير الدرزي في حكومة نتنياهو "أيوب قرّا" في فبراير/شباط الماضي، ولم يخفف نفي الحكومتين لذلك من القلق حول المشروع الذي لا يزال الحديث يدور حول استمراره.
إن شعوب هذه المنطقة عانت كثيرا من الاستبداد وآثاره، ولم تكن هناك لحظات تزيل همومَ المعيشة وتسلط الحكام أسعد من لحظات الانتصار والشرف الوطني، واسترداد الأرض قرار لا يملكه حاكم، بقدر ما يصنعه الشارع المتألم من مذلة الفقد، أما قرار التنازل لا يملكه أحد لا الشارع ولا الحاكم، وستظل سيناء كلها بما فيها أم الرشراش وتيران وصنافير جزءا من الارتباط العضوي بباقي الحدود المصرية، وسيظل احتفاؤنا بذكرى التحرير حافزا للحفاظ على الأرض، دون قبول بتسليمها للغير أو بيعها في صفقة كصفقات أسواق النخاسة.