مقالات مختارة

الاستفتاء الدستوري التركي والنخبة المصرية

جمال سلطان
1300x600
1300x600
اهتمت النخبة المصرية بمتابعة استفتاء تركيا عن التعديلات الدستورية التي يحول النظام السياسي هناك من برلماني إلى رئاسي، وكان من الواضح أن النخبة المخاصمة للتيار الإسلامي قد اتخذت موقفا مسبقا ضد الاستفتاء التركي ووصفته بأنه تأسيس للديكتاتورية، دون أن يهتم أحد من هذا التيار بتحليل مواد هذا التعديل ليوضح لنا أين يكمن الاستبداد فيها، خاصة أن معظمها بنود تحلم النخبة المصرية أن يتحقق مثلها في مصر، وتدخل في صلب دعواتهم وآمالهم ونضالهم السياسي، مثل توسيع دائرة حضور الشباب في المؤسسات السياسية المنتخبة، ومثل إلغاء المحاكم العسكرية إلا فيما يتعلق بالجزاءات التأديبية لقطاعات الجيش الداخلية، وعزله بالكامل عن الحياة المدنية، ومثل تقليص أسباب إعلان حالة الطوارئ، ومثل منح البرلمان حق التحقيق مع رئيس الجمهورية وإحالته للمحاكمة، وأمس نشر الأستاذ جميل مطر، المحلل السياسي الرصين، مقالا في سي إن إن العربية، يحلل فيه الاستفتاء التركي فقال مشيرا إلى نسبة التصويت بالرفض العالية: (نصف شعوب تركيا رفضت أن تعيش في ظل نظام  حكم الرجل الفرد والأدهى أن تورثه لأجيال لا ذنب لها.

النصف الآخر مع هامش أغلبية لا يتجاوز الاثنين بالمائة صوت بنعم فاستحقت تركيا  التغيير. بالتغيير يحق لتركيا اللحاق بقافلة الدول التي اختارت شعوبها بمحض إرادتها التنازل عن حرياتها، اختارت التنازل حين منحت في استفتاء أو ما شابه شخصا ما تفويضا مفتوحا وسلطات غير مقيدة). ثم يصل إلى قوله : (معظم الأصوات التي حصل عليها أردوغان في هذا الاستفتاء جاءت من الريف، بينما جاءت معظم أصوات الرفض من المدن) .

في العام الماضي كنت التقيت بالأستاذ جميل مطر في مكتبة الاسكندرية، في أثناء حضور إحدى الندوات، وجرى الحديث عن الشأن التركي، فحدثته عن تركيا اليوم وتياراتها السياسية وأحزابها والمجتمع المدني والحراك الإسلامي وتناقضاته، كان الرجل يسمع مني بدهشة كبيرة، وكأنه مصدوم من تلك المعلومات التي يعرفها لأول مرة، لذلك أستغرب أن يكتب اليوم بكل تلك الثقة كمحلل متخصص أو خبير في الشأن التركي، ويفرض وصايته على الأتراك واختياراتهم السياسية، ولكن الحقيقة أن هذا لم يكن موقف مطر وحده، بل ما وضح في معظم ما كتبته النخبة المصرية، وقد لاحظت أن تعليقاتهم على الشأن التركي تستبطن تجربتهم في مصر، مواقف وشخصيات، ويجري داخلهم قياس بين التجربتين، دون انتباه لاختلاف التجربتين، شخصيات وخبرات وبنية مؤسسية سياسية لها تاريخ.

أنا شخصيا لا أؤيد النظام الرئاسي في التجارب الديمقراطية الضعيفة، وأفضل النظام البرلماني، لأنه مخاصم بطبعه لفكرة الزعامة، وتتوزع فيه مراكز القوة والسلطة على جزئيات أوسع، حتى تنضج التجارب وتترسخ الديمقراطية وتتحول إلى ثقافة مجتمع وثقافة دولة، هنا ينتفي خطر التحول لنظام رئاسي، مثل النظام الأمريكي أو مختلط مثل الفرنسي، ولكن هناك في تركيا من يرى أن الديمقراطية ترسخت هناك عبر قرابة مائة عام من العلمانية والتعددية وتداول السلطة، رغم قطعها أحيانا بانقلابات عسكرية لا تدوم، ثم كانت التجربة الأخيرة، بعد صعود نجم حزب العدالة والتنمية التي عمقت الوعي بقيمة الديمقراطية على مدار خمسة عشر عاما متتالية، وقطعت الطريق على المغامرات العسكرية وفشلت المحاولة الانقلابية الأخيرة بحراك شعبي منع الدبابات من فرض إرادتها السياسية.

أيضا، في تركيا تحول النظام البرلماني إلى ثقب ينفذ من خلال تناقضاته وتنازع أحزابه العسكريون بوصفهم "الملاذ" والحسم من الفوضى وتأمين البلاد، فيركبون السلطة ويعطلون المسار الديمقراطي، لذلك كان ملاحظا أن رؤساء الحكومات "العلمانية" السابقة على حزب العدالة ـ مثل تانسو شيلر ـ كانوا مرحبين بالتحول إلى النظام الرئاسي وأيدوا الاستفتاء، وهم أكثر الناس دراية بالمشكلات التي كان يسببها النظام البرلماني، خاصة في بلاد يتوزع فيها المجتمع على تكتلات لها طابع طائفي وعرقي، العلويون والأكراد والعرب والسنة، فهذه النوعية من المجتمعات يكون النظام الرئاسي بضمانات ديمقراطية أكثر جدوى للاستقرار.

ما قاله جميل مطر من أن الشعب التركي اختار بمحض إرادته التخلي عن حريته وتسليم نفسه للاستبداد، ومنح أردوغان تفويضا مفتوحا وسلطات غير مقيدة، فوق أنه كلام فيه وصاية لا تليق على اختيارات شعب بطريقة ديمقراطية أفرزت أغلبية بفارق اثنين في المائة فقط، إلا أنه كلام غير سليم وغير صحيح؛ لأن التعديلات وضعت قيودا على الرئيس بل ومنحت البرلمان الحق في محاكمته وعزله إن اقتضى الأمر، كما أن الخلاف هو في إطار الاجتهاد الديمقراطي أساسا، كما أن صلاحيات رئيس الجمهورية في التعديلات الجديدة لن يستفيد منها أردوغان، وإنما ستكون إضافة لصلاحيات الرئيس الذي سيقوم الشعب التركي بانتخابه بعد عامين في انتخابات 2019، وأردوغان الذي لم ينجح في الاستفتاء إلا بفارق نقطتين، يمكن بسهولة أن يخسرهما إذا أساء التقدير في العامين المقبلين قبل الانتخابات الرئاسية.

أيضا حديث جميل مطر عن أن الريف هو الذي احتشد لصالح الموافقة، بينما المدن كانت ضده، هو كلام سطحي للغاية، وفيه إشارة تحقير غير لائقة بأن الجهلة والعوام هم الذين يراهن عليهم حزب العدالة، وفي الحقيقة أن "نعم" حصلت على عشرات ملايين الأصوات في المدن الكبرى بما فيها اسطنبول والعاصمة أنقرة، وكان الفارق ضئيلا جدا، بما يعني أن المدينة نفسها كانت منقسمة في الموقف من التعديلات وليست محتشدة ضده، والسطحية امتدت إلى تصور النخبة المصرية أن الإسلاميين احتشدوا خلف "نعم"، مستبطنين تجربة استفتاء التعديلات الدستورية في مصر بعد ثورة يناير، ولم يجهد أحدهم نفسه ليدرك أن قطاعا واسعا من الإسلاميين صوت ضد الاستفتاء، بل إن قطاعا من حزب العدالة والتنمية نفسه كان ضده، بل إن اسطنبول، قلعة الإسلاميين ومعقل حزب العدالة والتنمية، كانت أصوات الغالبية فيها ضده.

أنا أعذر النخبة المصرية عندما تتوتر تجاه مثل تلك الانتخابات أو الاستفتاءات التي يثور حولها جدل، خاصة أن الإعلام الغربي حمل حملة هائلة عليه لخصومة عميقة مع أردوغان والتجربة التركية بشكل عام، وهي خصومة لا صلة لها بالديمقراطية، فهم يصادقون "ديكتاتوريات" صريحة أخرى في الشرق ويدعمونها بالمال والسلاح، لكني أتمنى أن تكون النخبة المصرية أكثر رصانة في رصد التجارب من حولنا للاستفادة منها، وأكثر تواضعا أيضا بعد سوء التقدير الذي حدث منها في مصر بعد ثورة يناير، الذي ساهم في ضياع كل شيء، وكل منهم كان يتكلم حينها كنبي ملهم، كما أتمنى أن تتعافى النخبة المصرية من الداء القديم الذي أوردنا ـ ويوردنا ـ مهالك الانقسام والتشظي، وهو الكراهية الأيديولوجية العميقة والعمياء لمجمل التيار الإسلامي، وهي كراهية أثبتت التجربة أنها تعمي وتصم وتضلل عن رؤية المستقبل بشكل عقلاني وصحيح، وتحرمنا القدرة على البحث عن مخرج "واقعي" يؤسس لديمقراطية حقيقية في بلادنا ممكنة التطبيق.

(عن صحيفة "المصريون")

التعليقات (0)