إنّ هذا المشروع "المعرفي" هو من أوكد المهام التاريخية لنخبتنا المثقفة مهما اختلفت منطلقاتها الفكرية.. ولكنها مهمّة تحتاج إلى "شجاعة" كبيرة، قد لا يملكها المسيطرون على "قطبي" الصراع الإيديولوجي عندنا.
لم تكن المعارضة"القانونية"-وهي حصريا معارضة علمانية بعد أن تخلّص النظام من الإسلاميين بعد محرقة التسعينيات من القرن الماضي- إلاّ هامش النظام أو "الطابور الخامس" للبدائل المقبولة لديه، من أجل تغيير الأجزاء غير الوظيفية من واجهاته السياسية والثقافية والأكاديمية والإعلامية والنقابية.
بصرف النظر عن المعاني المتباينة التي قد تحصل في ذهن المتلقي عند سماع تعبير"الإسلام التونسي"، فإنّ الوظيفة السياسية التي أداها هذا المفهوم قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وبعده قد زادت في التباسه، بل في جعله مفهوما "مشبوها" عند الكثير من التونسيين الذين لا يتماهون إيديولوجيا مع الجهات "الحداثية" التي
من المؤكد أن الاشتغال الطبيعي للحقل السياسي (وباقي حقول الفعل الجماعي) لن يتم من غير خطابات "توافقية" غير صدامية ولا إقصائية، وهي خطابات يجب أن تنطلق من منظورات استراتيجية تعبّرعن قناعات حقيقية وخيارات مبدئية.
رغبة العديد من المثقفين والسياسيين والإعلاميين والنقابيين في "تَونسة" السيناريو المصري للحسم مع الوجود الإسلامي داخل السلطة والمعارضة، كان يعبّر عن أزمة أخلاقية حقيقية في العقل السياسي"الحداثي..
لم يعد الإسلامي بعد الثورة مجرّد "موضوع" للصراع أو التفاوض أو التواطؤ بين النظام و"هوامشه" التي تُسمّى معارضة قانونية أو معارضة راديكالية، ولم يبق الإسلامي "مدينا" في وجوده أو في حقوقه الفردية للنخبة الحداثية داخل السلطة وخارجها.
من المؤكد أنه لا يمكن أن نختزل البورقيبية وأن نشيطنها اعتمادا على مسرد من الاعتراضات"الفقهية"، كما لا يمكن أن تؤمثل وأن نسلّم بصلاحيتها لتأسيس الجمهورية الثانية بشواهد من المكاسب الحقوقية-خاصة حقوق المرأة-.
لا شك في أن الثورات تختزل مطالبها أو فلسفتها في جملة من الشعارات التي تكون لها قدرات تعبوية وتحريضية فعالة في لحظة تاريخية ما، ولا شك في أن الثورة التونسية قد عبّرت عن نفسها في صياغات شعاراتية كثيرة لعل أشهرها هو شعار"الشعب يريد إسقاط النظام".
بعد الثورة التونسية، كنت على يقين من أنّ "الرُّهاب La Phobie" المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين سيقوى رغم رحيل سببه "الظاهر" وسقوط الارتباط "المغالطي" بين أطراف الثالوث "المقدّس الذي حكم الدولة الوطنية منذ الاستقلال"، -كما قال محمد أركون - أي ثالوث: الوطن-الحزب-الزعيم.
تصدير:" تلك مفارقة الحرّية ، لقد أصبحت شعارا للذين هم في أقلّ حاجة إليها ، وللذين يرفضونها لمن هم في أمسّ الحاجة إليها" ( إريك هوبسباوم ،Eric Hobsbawm)
لقد جمع الكثير من "مثقفينا" التغريبيين، بين موقع المستشرق "التقليدي" في نظرته الاستعلائية للموروثات الجمعية التي يتعامل معها بمنطق استعماري، وبين موقع المثقف العضوي "التغريبي".
يمكننا أن نقول إن تنصيص حركة النهضة على مرجعيتها الإسلامية-رغم سعيها إلى تعريف نفسها بأنها حزب سياسي محافظ أو وسطي- سيبقى هو موضع التناقض الأساسي في علاقتها بباقي الفاعلين السياسيين العلمانيين.