كتاب عربي 21

الدستور أولا!

1300x600
ليس في نيتي "تقليب المواجع"، بفتنة التعديلات الدستورية، التي اختلف حولها الثوار، ودشنت لعملية الخلاف بعد ذلك، غاية ما في الأمر أنني وجدت من قوى الفشل السياسي، من ينفخ في الكير، بمناسبة الذكرى السنوية السادسة للاستفتاء على التعديلات الدستورية (19 مارس)، وبادعاء الحكمة بأثر رجعي، والبعض يرى أنها كانت بداية تواطؤ التيار الإسلامي مع العسكر وخيانتهم للثورة!

وكان الاستفتاء قد شهد بداية انشقاق الصف الثوري، فقد أغرت الإسلاميين قوتهم العددية، في حين أن القوى السياسية الأخرى، كانت تسعى إلى أن إفساد المشهد، وهنا جرى توظيف الدين من الطرفين، فلم يكن الإسلاميون وحدهم من قالوا إن "نعم" هي لله ورسوله، كما قالت دعاية السلفيين، وأن التصويت بالموافقة واجب شرعي كما قالت دعاية الإخوان، ففي الحقيقة أن الكنيسة استدعت رعاياها للتصويت بـ "لا"، وقال البابا شنودة إن إعداد دستور جديد مهم لإلغاء المادة الثانية من الدستور، ولم نجد من دعاة الدولة المدنية، الذين هبوا في وجه الدعاية الدينية للإسلاميين، من يقول للبابا: مكانك!

ولوضع النقاط فوق الحروف، فقد كنت من الذين قالوا "لا" على التعديلات الدستورية، واستنكرت استخدام منابر المساجد في موضوع سياسي بامتياز، وقد رفضت استدعاء الدين في معارك السياسة، سواء من قبل الإسلاميين، أو من قبل رأس الكنيسة، الذي كانت تعليماته لأتباعه بالحشد، سببا في حشد مقابل من الذين لم يكن يعني لهم الدستور شيئا!

كانت وجهة نظري، أننا نستطيع في خلال ما تبقى من فترة انتقالية، يمكن أن ننتهي من إعداد دستور جديد، لتبنى مؤسسات الدولة على أسس واضحة من أول يوم، ولم أكن مطلعا على النوايا، وأن المجلس العسكري يمكن أن يستثمر هذا في البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة بحجة الانتهاء من وضع الدستور، وكان واضحا أن الإخوان يتخوفون من ذلك، وكانوا يطمحون في الانتهاء من هذه المرحلة، حتى لا يطمع العسكر في الحكم إذا طال عليهم الأمد فيه، ولهذا رفع الإسلاميون شعار "الانتخابات أولا" في مواجهة شعار الآخرين "الدستور أولا"!

ومهما يكن، فقد كنت قد دعوت الناخبين للحضور، على قاعدة أن نجاح الثورة يعبر عنه الحضور الضخم للناس، في أول استحقاق انتخابي، بغض النظر عن موقفهم سواء قالوا "نعم"، أم صوتوا بـ"لا"، وإذ احتشدت الجماهير أمام اللجان في هذا اليوم، فقد اعتبرته -كما اعتبره غيري - استفتاء على شرعية الثورة، ووقفت في طابور إحدى اللجان مع عدد من الأصدقاء كانت توجهاتنا مختلفة، لكن كل منا لم يكن مستعدا لإقناع الآخر بسلامة موقفه، وهذا الإحساس سيطر على الطابور الطويل من الناخبين، فقد حرصوا على الهدوء، ومن يتكلم مع زميله فإن حديثه بعيدا عن موضوع الحدث، فلم يكن أحد يريد أن يفسد هذا "العرس" بشطر كلمة قد تنتج خلافا يتطور إلى عراك!

فالخلاف كان في ساحات أخرى، وبين الإسلاميين الذين رأوا أنهم بقوتهم قادرون على حسم أي استحقاق انتخابي، وبين الآخرين الذين لديهم خوف فطري من فكرة الاحتكام للجماهير فدقوا طبول الحرب وأمسكوا في تصريحات للإسلاميين ونفخوا فيها، سعيا للفتنة، ومنها مقولة الشيخ حسين يعقوب "غزوة الصناديق"، ورغم أنه اعتذر عنها وقال إنه كان يمزح، فلم يتوقف استدعاؤها إلى الآن، ورغم أنني كنت أقف في الجبهة الأخرى، فقد كتبت أنني لم أر مشكلة في هذه المقولة، فيكفي أنها تعبير عن أن التيار الديني التقليدي أصبح يؤمن بقيمة الصناديق، وبإرادة الناس، وإذا كنا قد هزمنا في المعركة فلابد أن نتقبل هذا بروح رياضية.

لست مع القائلين، بأن التعديلات الدستورية كانت سبباً في أزمة فرقاء الثورة، فقد كانت النفوس معبأة بنيران الكراهية، تبحث عن فرصة للتنفيس عما تعتمل به، فوجدت ضالتها في الدعوة للاستفتاء، والدليل على ذلك، أن فكرة التعديلات حملها العسكر معهم من أول يوم، وأعلنوا عن تشكيل لجنة لتعديل سبع أو ثمان مواد في الدستور، في ذات الخطاب الذي أدى فيه ملقيه اللواء الفنجري تحية لشهداء الثورة، وفي البيان رقم (1)، ولم تعترض هذه القوى، فقد كانت فكرة هذه التعديلات مستمدة من القرارات الأخيرة لحسني مبارك، التي اتخذها في أيام الثورة، بهدف السيطرة عليها!

وإذا كانت مواقفنا جميعا تطورت عند الإقدام على هذه الخطوة، فلم نكن على دراية بموقف المجلس العسكري الحاكم، الذي كان يبدو أنه يقف على الحياد، وإن قال البعض في وقت لاحق أنه حدث تواطؤ بينه وبين الإخوان وتحالف ضد الثورة، والبعض يؤرخ لمؤامرة الإخوان والعسكر ضد ثورة يناير منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فهل كان هذه صحيحا؟.. ثم من قال إن الثورة ستتحقق بالدستور أولا، أم بالانتخابات أولا؟!

لم تكن القوى الأخرى ضد المجلس العسكري، عندما بدأت الدعوة للاستفتاء على الدستور، بل إن الشاهد إنها كانت حاضرة بقوة على موائد اللئام، ويجري استخدامها في عزف الاسطوانة المشروخة التي تقول إن العسكر حموا الثورة، ورفضوا تنفيذ تعليمات مبارك بفض ميدان التحرير بالقوة، وأنهم من أجبروا مبارك على التنحي، إلى غير هذه الأساطير!

وعندما بدأ خلاف خجول حول الأزمة الدستورية بعد هذه التعديلات بين عدد من فقهاء الدستور، لم تكن القوى الوطنية معنية بالموضوع، لأنه كان يثبت خطأ القرار العسكري بالتعديلات، ولم تكن هذه القوى مستعدة لمعارضة قرارات المجلس العسكري، لذا فقد تركت القرار لتعارض آثاره. دعك من ادعائهم الشجاعة الآن بأثر رجعي!

وعموما فهذه المناقشات الخطيرة التي قالت أنه بموجب الموافقة على التعديلات، فسوف نتعرض إلى أزمة بسبب قرار وقف العمل بالدستور كلية، وانتهت إلى أن المواد يمكن أن تلحق بدستور 1971، بعد إحيائه، لتدارك الخطأ، لكن العسكر بعد أن تبدت عوراتهم للناظرين، لم يقوموا ببعث هذا الدستور، وإنما، وضعوا إعلانا دستورياً، لنكون أمام مشهد تلفيقي، فسبع مواد تم إقرارها بالاستفتاء الشعبي، وباقي المواد فرضت بفرمان!

ومهما يكن، فإذا كان المجلس العسكري لم يفصح عن موقفه وما إذا كان مع التصويت بـ "لا"، أم بـ"نعم"، فقد كان لا يريد أن يبدو منحازاً، فتظهر نواياها، وتفقده صلاحياته للحكم، وإن كانت الشواهد، تؤكد أنه كان منحازاً لمبدأ "الدستور أولاً" وهو ما تبين بعد ذلك، فقد كانت جلسات الحوار الوطني، التي قام عليها عبد العزيز حجازي، ويحيى الجمل، تتعرض لملامح الدستور الجديد، وظهر أن العسكر يريدون أن يوضع الدستور وهم في الحكم، ولهذا فإن هذه القوى التي تدعي الحكمة بأثر رجعي الآن، دغدغت مشاعره باقتراح النص في الدستور على أن الجيش هو في مقام الولي الفقيه في إيران، وبالنص على أن القوات المسلحة هى راعية الدولة المدنية!

وكان الإخوان، يريدون بدعوتهم إلى "الانتخابات أولاً"، إلى الإفلات من هذا الفخ، وقد تجاوز المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفترة التي قطعها على نفسه في الحكم وهى ست شهور، وبقى سنة ونصف السنة، حتى يوضع الدستور وهو في الحكم، لكنه لم يفلح في هذا!

وهو ما جعلني على يقين بالإقرار بأن القرار الصائب لم يكن هو ما اتخذته من التصويت على التعديلات الدستورية بـ "لا"، في حين أن من اتخذوا نفس موقفي يسخرون الآن ممن دعوا للتصويت بنعم، مع أن موقفهم كان سيعطي امتيازاً للجيش في الحكم، وهى نفس امتيازات للجيش التركي سابقاً، ويبدو أن هذا ما كانوا يطمحون إليه، لأنهم باعتبارهم قوى سياسية فاشلة، فإنهم لا يجدون أمانهم إلا في وجود قوة العسكر لتحميهم وتضمن لهم الوجود السياسي رغماً عن إرادة الناخبين!

إلى العاهات السياسية: إن الذين اختشوا ماتوا.. فعلا!