قضايا وآراء

حرب الأصوات وصراع الهوية

1300x600
حين تتحول معركة الأصوات الانتخابية إلى معركة هوية يربح السياسي فيها على المدى القصير ويخسر على المدى المتوسط والطويل. معارك الهوية استقطابية غير موضوعية وتبنى على العواطف لا الحقائق والوقائع. هل أتاك نبأ معركة الهوية الأميركية التي صعدت بظاهرة إعلامية جاهلة هي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض؟ وهل نتذكر مغازلة رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون لليمنيين فأجرى استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي ففقد منصبه ولا تزال البلاد تتخبط من بعده في هذه الورطة؟ 

التيار اليميني المتطرف بشكل عام لا يملك سوى المزايدة وإحياء الخطاب العنصري فيحصد أصواتا من دون مجهود في سياسات وبرامج انتخابية تنافسية. يتغذى على فشل منافسيه أكثر من الاعتماد على نفسه. تكمن المشكلة فيمن يسايرهم من السياسيين ويريدون تحويل دفة الأصوات لصالحهم على حساب المهاجرين باستخدام المزاج الشعبي المعادي. وهو الفخ الذي وقع فيه الهولنديون والأتراك على اختلاف الدرجات في الأيام الماضية. ولتفسير ما حدث، يمكننا أن نعزو الأمر برمته للصراع التاريخي بين الأوروبيين والأتراك لتقديم إجابة سهلة لكنها غير صحيحة. 

تركيا دولة تنتمي جغرافيا لأوروبا وهي في مرحلة التفاوض لدخول الاتحاد والعلاقات السياسية والاقتصادية كبيرة مع دوله. ويعد شأنها الداخلي مثار اهتمام في هذه الدوائر. فكما أن اليمن مثلا شأن مهم خليجيا لدول مجلس التعاون من دون أن يكون لليمين عضوية فيه، فإن تركيا شأن مهم أوروبيا حتى قبل دخولها رسميا للاتحاد كما يهتم أهل العروس بظروف العريس أثناء فترة الخطبة قبل إتمام الزواج. الفكرة تتعلق فقط بشكل هذا الاهتمام وطبيعته، خاصة وأن تركيا تمر الآن بمرحلة تحولات كبرى على صعيد السياسة الداخلية والخارجية بعدما انتهت مرحلة صفر مشاكل مع دول الجوار حسب نظرية رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو. 

خلال هذه المرحلة لا يملك الاتحاد الأوروبي نفوذا يذكر على الاتراك سوى الإعراب عن قلقه حول بعض القضايا الحقوقية أو التعديلات الدستورية الأخيرة. ويدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كسياسي مخضرم، أن أي ضربة سيوجهها لأوروبيين لن يستطيعوا ردها له لأنهم في موقف ضعف على كافة المستويات. فالاتحاد الآن هو رجل أوروبا المريض سياسيا واقتصاديا. وهو قاب قوسين أو أدنى من التفكك وينتظر بديلا أسواء يلوح في الأفق بقيادة النازيين الجدد واليمين المتطرف. خاصرته الشرقية مهددة من الروس وضفته الأطلسية في بريطانيا على وشك الانفصال، بينما لا يستطيع السيطرة على أمواج المهاجرين القادمين من الجنوب. يتأهب الروس للانقضاض على القارة العجوز وإحياء ميراثهم السابق في شرق أوروبا والبلقان ويحتلون بالفعل أجزاء من أوكرانيا.

أخطأ أردوغان حين أعتبر أن الدعاية السياسية المباشرة لمواطني دول الاتحاد مزدوجي الجنسية حق مفروغ منه من دون أي تخطيط لكيفية تنفيذ هذه الدعاية وسط أجواء متوترة مع هذه الدول. وهناك خلفيات تتعلق بمضايقات ومشاحنات بين الأتراك وبعضهم البعض بعد محاولة الانقلاب الفاشلة العام الماضي في عدد من الدول الأوروبية بسبب الانقسام الاجتماعي والسياسي التركي. وأخطأ الهولنديون حين قابلوا التصعيد التركي بتصعيد آخر غير دبلوماسي استغلالا لمناسبة انتخابية هولندية يتصدر فيها اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين استطلاعات الرأي. 

حدة الاستنفار والتصريحات النارية المتبادلة بين تركيا وهولندا ستنتهي غالبا بعد الانتخابات الهولندية والاستفتاء التركي مثلما انتهت حرب كلامية أخرى مع الروس ولن يبقى سوى أجواء الشحن الشعبي المتبادل الذي لن يتمكن الدفء الدبلوماسي اللاحق من اقتلاعه. 

كنت أتمنى أن تكون العلاقات الأوروبية التركية مبنية على بُعد نظر يجنبها مشاكل معارك التصويت في تركيا أو داخل دول أوروبية. فإذا كان الأوربيون في موقف ضعف أو لدى بعضها موقف من التحاق الاتراك بالاتحاد، فإن الأتراك قادرين على التأثير الناعم في الوضع الأوروبي الرخو وخلق دوائر نفوذ عديدة بدلا عن هذا النوع من المواجهات. وهي طرق معروفة ومشروعة تعتمد على اللوبيات السياسية والإعلام وغيرها.

إن التقديرات تشير إلى أن عدد المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي يربو على عشرين مليون شخص. وهؤلاء لديهم مشاكل اقتصادية وحقوقية واجتماعية. ومع وجود استثناءات قليلة، فالجهود الاستراتيجية للدول الإسلامية في دول الاتحاد تقتصر على دعم مصالحها المباشرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا أكثر من المساهمة في حل مشاكل الجاليات المسلمة. وبالتالي فإن مثل هذه المعارك ليس لها تأثير حقيقي على أوضاع المسلمين في هذه البلدان وقد يكون لها تأثير سلبي يعزز من المناخ العام الذي يميل ناحية اليمين. 
لو أن الدول الإسلامية بشكل عام وجهت طاقتها لمواجهة العنصرية في أوروبا والتيار اليميني الصاعد لكسبت على ثلاثة مستويات أولها أنها ستجد تيارات أوروبية شعبية وسياسية كثيرة تقف إلى جوارها وثانيا لنفعت الجاليات المسلمة بطريق مباشر وغير مباشر وثالثا ستعزز من مناخ عام يمكن أن يحمي مصالحها ويوفر شركاء عقلاء للتعامل معهم.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع